آخر تحديث :الأربعاء-30 يوليو 2025-11:22م

بن مبارك حين يقضى صوت النزاهة وتمكن قوى الفساد

السبت - 05 يوليو 2025 - الساعة 09:14 م
د. قاسم الهارش

بقلم: د. قاسم الهارش
- ارشيف الكاتب


في وطن يعلو فيه صوت الزيف كلما نطق الصادقون ويخنق فيه الأمل كلما اقترب من الحقيقة يغادر الدكتور أحمد عوض بن مبارك موقعه لا خاسرا ولا منسحبا بل شامخا بضميره واقفا على الضفة الأخرى من هذا المستنقع الذي يقصي النزيه ويكافئ المفسد.

لا يمكن النظر إلى مغادرته باعتبارها مجرد استقالة شخصية أو نهاية لمسيرة مسؤول بل يجب أن تقرأ ضمن سياق أعمق يعكس الأزمة الحادة التي تعاني منها الدولة اليمنية حيث تحول الصراع من أجل الإصلاحات إلى معركة مفتوحة ضد كل من يرفض الخضوع لشبكات المصالح العابثة.

لقد جاء أحمد بن مبارك إلى موقع المسؤولية من بوابة الكفاءة والاقتدار لا من بوابة المحاصصة أو الترضيات السياسية. دخل بقلب مملوء بالإرادة لعمل إصلاحات حقيقة لا بالمناورات أو الحسابات الضيقة. ومنذ اللحظة الأولى بدا واضحا أن مشروعه في إدارة الدولة سيصطدم بجدار المصالح المتشابكة التي لا تقبل بكفاءة مستقلة ولا تسمح لنزيه أن يعري فسادها أو يغلق منافذ عبثها.

رجل قال "لا" للعبث فحورب. رفض أن يكون شاهد زور على الانهيار فتم تشويهه ثم محاصرته وأخيرا إخراجه من المشهد. لقد دفع ثمن محاولته حماية ما تبقى من مؤسسات الدولة من الانهيار الكامل.

ورغم الحملة الإعلامية الممنهجة التي لاحقته طوال فترة توليه إلا أن الواقع كشف بعد مغادرته أن تلك الأصوات لم تكن تدافع عن مصلحة عامة، بل كانت أذرعا في ماكينة تصفية تستهدف كل من لا يسير وفق أجندتها.

فماذا حدث بعد مغادرته؟

في أقل من أسابيع انحدر سعر صرف العملة الوطنية بشكل مقلق وانهارت الخدمات العامة وتأخرت رواتب موظفي الدولة لشهرين متتاليين للمرة الأولى منذ أعوام. وبينما يعيش المواطن هذه الصدمات اليومية غابت الأبواق التي كانت تهاجم أداء الحكومة وساد صمت إعلامي غريب وكأن الأزمة كانت في الرجل لا في النظام بأكمله.

لم يكن بن مبارك معصوما ولم يدع الكمال لكنه كان حالة نادرة في إدارة الدولة. وقف بشجاعة أمام سيل الفساد وسعى إلى إغلاق منافذ الإنفاق غير المشروع وأراد للدولة أن تدار بالمهنية لا بالمجاملة أو المحاصصة وبالقانون لا بالارتجال.

لكن ذلك لم يكن مرغوبا في بيئة تحترف تقويض كل محاولة إصلاح. وهكذا كما هو معتاد في هذه البلاد يتم إخضاع الكفاءات أو إقصاؤها.

إن ما يجري اليوم لا يتعلق بشخص أو موقف بل بمصير دولة تتاكل من داخلها. فحين يتحول النزية إلى متهم والفاسد إلى بطل والإعلام إلى أداة تبييض للخراب نكون قد دخلنا مرحلة خطيرة من انقلاب المعايير حيث لا دولة تبنى ولا استقرار يتحقق ولا مستقبل يرجى.

إن الصمت في مثل هذه اللحظة لم يعد مقبولا. والتبرير لم يعد كافيا. نحن بحاجة إلى صوت صريح وموقف شجاع يعيد الاعتبار لفكرة الدولة ويحمي ما تبقى من الشرفاء فيها ويكسر دائرة الإفلات من المحاسبة.


إن مغادرة بن مبارك بكل ما فيها من صدمة لا يجب أن تمر كحدث عابر بل يجب أن تكون جرس إنذار كبير نطرحه جميعا بصوت عال.

من كان سبب الأزمة الحقيقي؟ ومن كان يحاول إصلاحها فتمت محاربته؟ وكم من أمثال بن مبارك يجب أن نخسر قبل أن نفيق من الغفلة؟


نحن بحاجة إلى انتقال فعلي من التحسر إلى الفعل من المراقبة الصامتة إلى الموقف الصريح من التبرير إلى المحاسبة. فما يجري لم يعد يحتمل مزيدا من التجاهل أو الصمت أو المراوغة.


التاريخ لا ينسى. لكنه لا ينصف إلا من لا يصمت.