عنوانٌ صغيرٌ في حروفه، عظيمٌ في مآسيه... يحمل في طيّاته وجع أمة، وصرخة مجتمعٍ بات يئنّ من غدر الواقع، وكأنّه نُقِش بأنين رجلٍ بسيط، لا يحمل شهادة، ولا يتقن صنعة، لكنه نطق بالحقيقة كما تُنطَق الشهادة الأخيرة على جُرحٍ لا يندمل.
حكاية هذا الرجل ليست مجرّد موقف عابر، بل مرآةٌ صافية تعكس خذلانًا جمعيًّا، وانكسارًا عميقًا في منظومة القيم.
دخل ذات يوم على مديرٍ في إحدى الدوائر الحكومية، يرجو وظيفة تُعينه على قسوة الأيام، فسأله المدير باهتمام رسميٍّ مصطنع:
"ما مؤهلاتك؟"
فأجابه بصدقٍ عارٍ من الزينة:
"لا شهادة لدي، ولا صنعة أُجيدها."
فقال المدير مستغربًا:
"إذن، كيف أُوظفك؟!"
فردّ الرجل، ببساطة جارحة كحدّ السكين:
"عادي... أي وظيفة، حتى مُعلِّم!"
هنا لم يكن الجواب مجرد سخرية عابرة، بل شهادة وفاة لهيبةٍ كانت يومًا ما مصونة.
في تلك اللحظة، امتزجت المرارة بالضحك، كما يمتزج البكاء بالابتسامة في مأتم، وتجلّى أمامنا الانحدار، لا في قيمة المهنة، بل في وعي المجتمع بأهميتها.
في ذلك الزمن، كان المعلم يتقاضى ما لا يتجاوز بضع مئات من الريالات، أما اليوم، فلا تكاد تكفيه أجوره لحاجةٍ واحدة، وكأنّ رسالة التعليم أُفرغت من قدسيتها، وأصبح المعلم في وطنه غريبًا... مغلوبًا على أمره.
لو عاد ذلك الرجل اليوم، لربما تطاول بأحلامه، وقالها مجددًا، ولكن بنبرة أعلى:
"حتى أستاذ جامعي!"
تغيّرت النظرة للمهن، لا بحسب ما تُعطيه من نورٍ وعقل، بل بما تمنحه من مال.
أصبحنا نقيس العلم بميزان السوق، لا بميزان القيم.
فمتى احتُقر المعلم، وهُدرت كرامته، فاعلم أن الأمة قد اختارت طوعًا طريق الانحدار، وتنازلت عن المستقبل لأجل رغيفٍ لا يكفي.
في اليابان، يقولون:
"لا تطأ ظلّ المعلم"
رمزًا لمهابته، ولو كان مجرد ظل.
أما نحن، فوطئنا المعلم ذاته، لا ظله، وجعلناه يقف في آخر الصف، بينما تصدّر الجهلُ والسطحيةُ الواجهة.
وقد صدق الشاعر حين قال:
> تعلّم، فإن المرءَ لا يُولدُ عالمًا
وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ
فإنّ كبيرَ القومِ لا علمَ عنده
صغيرٌ إذا التفتت عليه المحافلُ
وإنّ صغيرَ القومِ إن كان عالمًا
كبيرٌ إذا ارتدتْ إليه المحافلُ
العلم ليس رفاهية، بل هو رأس المال الحقيقي، والسلطان الذي لا يُرى، والحاكم الذي لا يصرخ.
قد يظنّ البعض أن القوة في السلاح، أو في المال، أو الإعلام، ولكن الحقيقة أن المعرفة هي البداية، وهي النهاية.
ومن لم يذق مرارة السهر طلبًا للعلم، ذاق ذلّ الجهل أبد الدهر.
فما من أمّةٍ نهضت إلا وكان على أكتاف معلميها، وما من حضارةٍ سادت، إلا وقدّست العلم وجعلته في مصافّ العظمة.
وقد قال كونفوشيوس، الفيلسوف الصيني العظيم:
"إذا أردت نتائج خلال سنة، فازرع الأرز. وإذا أردت نتائج بعد عشر سنوات، فازرع الأشجار المثمرة. أما إذا أردت نتائج بعد عقود، فعلّم الأجيال."
وهكذا فعلت الصين، فغزت العالم لا بالجيوش، بل بالعلم، حتى غدت حاضرةً في كل بيت، دون استئذان.
ومن أراد أن يعرف موقعنا في خريطة الحضارات، فلينظر في كتب التاريخ، إلى عصور الانحطاط، وصفاتها…
سيجد، بكل أسف، أننا لم نغادرها بعد.
ما زلنا نقف هناك، بين الجهل والتخلّف، ننازع الأمل، وننتظر معجزة لن تأتي… ما لم نعد الاعتبار للمعلم.
---محبكم زكي يافعي ..