بقلم: د. عارف محمد عباد السقاف
أستاذ اقتصاد الأعمال المشارك – كلية المجتمع/عدن
في خطوة تكشف أبعاداً اقتصادية وسياسية عميقة، أعلن بنك صنعاء الخاضع لسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) عن إصدار عملات معدنية من فئتي 100 ريال، ولاحقاً 50 ريالاً. هذه الخطوة التي تبدو في ظاهرها حلاً لمشكلة نقص الفئات النقدية الصغيرة، تحمل في طياتها رسائل سياسية، وتجسد تحدياً مباشراً للحكومة الشرعية والمجتمعين الإقليمي والدولي، وتكرس واقعاً مالياً موازياً يزيد من تعقيد المشهد اليمني المنقسم بطبيعته.
منذ انقسام البنك المركزي بين صنعاء وعدن، دخلت البلاد مرحلة من الانقسام النقدي والمالي، فبنك عدن استمر في إصدار عملات ورقية جديدة بدون غطاء نقدي حقيقي، وهو ما رفض الحوثيون الاعتراف به أو تداوله في مناطقهم، مما خلق أزمة سيولة خانقة، لا سيما في الفئات الصغيرة، وأدى إلى تدهور شديد في حالة النقد الورقي المتداول منذ ما قبل الحرب.
العملات المعدنية التي بدأ بنك صنعاء بضخها إلى السوق، وإن كانت تسهم جزئياً في تيسير المعاملات اليومية، فإنها لا تمثل حلاً حقيقياً لجذور المشكلة. فهي لا تستند إلى أي غطاء نقدي أو أجنبي معروف، ولا تصدر ضمن منظومة نقدية موحدة أو تحت إشراف جهة مالية مستقلة، مما يجعلها عرضة للتدهور في القيمة أو حتى فقدان القبول في السوق على المدى المتوسط والبعيد.
أثر اقتصادي مزدوج ومتضاد
في مناطق سيطرة الحوثيين، قد تحقق العملات المعدنية نوعاً من الانسيابية المؤقتة في حركة السوق، لكنها لا تعالج أساسيات الانكماش الاقتصادي، ولا توقف تآكل القوة الشرائية للمواطن. بل إن استمرار إصدار العملة دون سياسة نقدية واضحة ومتكاملة قد يسهم في تفاقم التضخم وزيادة الاعتماد على العملات الأجنبية.
أما في مناطق الحكومة الشرعية، فقد قوبلت هذه الخطوة بالرفض الكامل من قبل البنك المركزي في عدن، الذي اعتبرها غير قانونية وغير معترف بها. هذا الموقف يعزز الانقسام النقدي، ويزيد من تعقيد التبادل التجاري بين المحافظات، ويضعف فعالية السياسة النقدية لبنك عدن، الذي يعاني أصلا من تدهور كبير في قيمة العملة المحلية، وارتفاع التضخم بشكل غير مسبوق، نتيجة غياب الثقة في أدائه، وانتشار الفساد، وتبديد النفقات الحكومية بشكل عشوائي.
أبعاد سياسية ورسائل ضمنية:
بعيداً عن الجوانب الاقتصادية، لا يمكن عزل هذه الخطوة عن سياقها السياسي، فهي تجسد تحدياً صريحاً للحكومة الشرعية التي تمثل الجهة المعترف بها دولياً في إدارة السياسة النقدية. إصدار الحوثيين للعملة المعدنية يعكس سعياً لفرض واقع مؤسسي مواز، وكأنهم يمتلكون أدوات دولة متكاملة، وهو ما يشكل ضغطاً على مسار التسوية السياسية ويقوض فرص توحيد المؤسسات الوطنية مستقبلاً.
كما أن هذه الخطوة تحمل رسالة غير مباشرة للمجتمع الدولي مفادها أن الجماعة قادرة على إدارة اقتصاد مستقل، حتى وإن كان ذلك في إطاره الشكلي فقط. وهذا ما يثير القلق حول مستقبل وحدة اليمن النقدية، ويضعف من جهود إعادة بناء مؤسسات الدولة تحت مظلة واحدة.
الآثار الاجتماعية:
الانقسام النقدي في اليمن لم يعد يقتصر على البعد الاقتصادي أو السياسي، بل امتد ليخلق آثاراً اجتماعية عميقة تمس حياة المواطنين بشكل يومي. المواطن الذي ينتقل من منطقة إلى أخرى داخل بلاده، يجد نفسه غير قادر على استخدام ما يحمله من نقود، سواء ورقية أو معدنية، في أسواق مختلفة. وهكذا تتحول العملة من رمز وحدة إلى أداة قطيعة، تعزز من الانتماءات المناطقية على حساب الانتماء الوطني الشامل.
وقد أدى هذا الواقع إلى زيادة الإقبال على العملات الأجنبية مثل الريال السعودي والدولار الأمريكي، كوسائل للتداول والادخار، خصوصاً في المعاملات الكبيرة، بسبب انعدام الثقة في الريال اليمني. وهذا ما يزيد من هشاشة النظام المالي، ويؤدي إلى ضعف ارتباط المواطن بالدولة، ويخلق شعوراً دائماً بعدم الاستقرار.
كما أن عدم قبول الفئات المعدنية أو الورقية الجديدة في مناطق معينة، انعكس سلباً على شريحة واسعة من محدودي الدخل، خصوصاً العمال اليوميين، والباعة الصغار، والسائقين، الذين يعتمدون على التبادل النقدي المباشر والسريع. فغياب الفئات النقدية المقبولة يعطل دورة حياتهم الاقتصادية اليومية، ويزيد من معاناتهم المعيشية، ويكرس حالة من الغضب والاحتقان المجتمعي.
وفي ظل هذا الانقسام، أصبحت العملات المتداولة وسيلة لإظهار الولاء السياسي، لا أداة اقتصادية محايدة، وهو ما ينذر بخطورة استخدام أدوات الاقتصاد في تغذية الصراع الاجتماعي والسياسي داخل المجتمعات المحلية وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة.
من وجهة نظري، فإن إصدار الحوثيين للعملة المعدنية الجديدة ليس حلاً لأزمة السيولة، بل هو تجسيد لاستمرار الانقسام النقدي وتكريسه. ويجب النظر إليه كأداة سياسية تعكس محاولة لبناء اقتصاد مواز خارج إطار الشرعية، ما قد يؤثر سلباً على فرص التسوية السياسية، ويزيد من تآكل الثقة بالعملة الوطنية ويقود إلى مزيد من الاعتماد على العملات الأجنبية.
في المقابل، تعاني مناطق الشرعية من تدهور حاد في قيمة العملة المحلية وارتفاع كبير ومستمر في الأسعار، نتيجة غياب الشفافية، وسوء الإدارة المالية، وتفشي الفساد في مختلف مؤسسات الدولة، ما جعل المواطن يدفع الثمن باهظاً في الجانبين.
إن استمرار إصدار عملات مختلفة من جهتين متنازعتين، دون غطاء نقدي أو اتفاق وطني شامل، لا يمكن اعتباره سوى ترسيخ لانقسام خطير في بنية الاقتصاد اليمني، يقود إلى مزيد من التشرذم، ويهدد وحدة السوق والثقة العامة بالريال اليمني كرمز وطني. والمواطن البسيط يظل الضحية الأكبر، في معركة يتصارع فيها طرفان على الورق، فيما تتآكل قدرته الشرائية في الواقع.
في ظل هذا الوضع، فإن المطلوب اليوم ليس مزيداً من الإصدارات النقدية، بل إرادة سياسية وطنية تعيد توحيد السياسة المالية والنقدية، وتضع الاقتصاد اليمني في مسار التعافي الحقيقي، بعيداً عن المزايدات والتجاذبات، وقريباً من معاناة المواطن وهمومه اليومية.