آخر تحديث :الخميس-14 أغسطس 2025-03:47م

عُرس يُشبه البلاد حين كانت بلاداً... وتجلي الذاكرة اليمنية في حضور القائد أحمد علي عبدالله صالح

الخميس - 14 أغسطس 2025 - الساعة 07:32 ص
مصطفى المخلافي

بقلم: مصطفى المخلافي
- ارشيف الكاتب


ليست كل السطور تُكتب ببرود، ولا كل اللحظات تُختصر بعنوان، هناك مناسبات تمر بك وكأنها لا تنتمي لما تعرفه عن الزمن، لحظات تتجاوز السياق، وتتسلل إلى وعيك كمفترق طرق بين ماضي لم يغب، ومستقبل يتشكل في الملامح والنظرات والهتاف، لم أكن أنوي الكتابة، ولا السرد، ولم تكن المناسبة تطلب تقريراً ولا مرافعة سياسية، لكنها فرضت علي تأملاً قاسياً، لحظة وجدانية صادقة، شعرت فيها أن اليمن كلها كانت تهمس في الزحام، أن شيئاً يحدث يتجاوز مقاعد الفرح، ويتجاوز المعازيم، شيء يشبه التاريخ وهو يُكتب مجدداً، لكن هذه المرة، لا على الورق، بل في القلوب وعلى الوجوه.



كما قلت ليست كل المناسبات تُروى كما هي. بعضها يتجاوز صيغ التهنئة التقليدية، ويمتد في الذاكرة كعلامة فاصلة بين ما كان وما يمكن أن يكون، عرس آل صالح وآل دويد وآل القاضي، لم يكن مجرد زفة عائلية، بقدر ما كان مشهداً لكرنفال وطني، تجاوز الوجدان العام بحضور شعبي واحد، كان كفيلاً بتحويل المناسبة إلى ما يشبه استفتاءً غير معلن.


منذ البارحة وأنا أؤجل كتابة ما جرى، أقنع نفسي أنني كنت منشغلاً بردود الفعل، لكن الحقيقة أنني كنت غارقاً، في التفاصيل، في الزحام الذي امتزج بالهتافات، في المصافحة التي لم تكن عادية، في النظرات التي كانت تقول أكثر مما يقال، شيء ما في داخلي لم يستوعب تماماً أنني في عرس، وليس في لحظة مفصلية من تاريخ طويل، تذكرت أمي حفظها الله، حين كانت تقول لي: رحل الرئيس علي عبدالله صالح لكنه باق في ذريته،

وفي تلك اللحظة، شعرت أن ما كنت أبحث عنه طوال الوقت كان هناك، بين الزفة والمصافحات ونظرات الناس التي لم تكن فقط تحتفل، بل كانت تقول شيئاً آخر، شيئاً يُشبه، نحنُ البُسطاء ونحنُ ننتظر قدوم إرث الدولة، دولة صالح الشهيد.


لقد كان عرس آل صالح وآل دويد وآل القاضي، أشبه بمهرجان بلا عنوان، بلا حاجة حتى للافتة ترحيب، كان كافياً أن ترى الوجوه وهي تلمع مثل الشمس في الزحام، رغم طول الانتظار في حر الطقس.


تجمعوا الناس كما لو أن موعداً غامضاً في الذاكرة نُقر في عقولهم، اليوم ستلتقون وجهاً يُشبه الذي مضى، وتشتمون رائحة مرحلة لا تزال تئن في حناجركم.


دخل القائد أحمد علي عبدالله، كمن يعود إلى بيته بعد نفي طويل، كأن البوابة نفسها تأخرت عليه قليلاً وتعتذر له بصمت.


في لحظة، بدا المشهد أقرب إلى استفتاء شعبي غير مُعلن، لا أوراق، لا أقلام، فقط نظرات تقول، نعم نريده، نريدك بيننا ممثلاً لنا ولكرامتنا وعزنا الذي فرطنا به، صحيح أنه لم يكن أحد ينطق بذلك، لكن السياسة هنا تعرف طريقها عبر العيون أكثر من الشعارات.


اقترب منه أحدهم، شاب بدا وكأنه في منتصف اليأس، تكاد تخرج الدمعة من جبينه قبل عينه، وقال شيئاً غير مسموع، ثم بكى وهو يُمسك بكف القائد كأنها حبل نجاة أُرسل متأخراً، الطفل الذي أتى من تعز، بكل ما تعنيه تعز من جراح وصبر وحنين، أصر على التقاط صورة معه، وكأنها ذكرى وإثبات وجود، وكأن الصورة صك حياة جديدة تُعيد له ولتعز الحياة التي افتقدوها.


كان هذا الضجيج والزحام، ذلك الذي لا يُشبه صخب الأعراس، بل يشبه لحظة ما قبل إعلان النتيجة في قاعة امتحان كبرى، العيون ترقب، الأفئدة تقول شيئاً لا يحتاج إلى ترجمة، لكن الزحام كان مختلفاً هذه المرة، لم يكن مجرد حشود تجتمع، كانت جماهير تلتف حول رجل واحد، تنظر إليه كما يُنظر إلى الأمل حين يُبعث في زمن شحيح.



ملامح والده، نعم ملامح الوالد كأنها لم ترحل يوم رحل، ظلت مختبئة تحت عينيه، في انحناءة الحاجب، في الصمت الطويل، في الإيماءة التي لا تحتاج إلى كثيراً من الشرح.


كنت جزءاً من ذلك الحضور، أقف ضمن الدائرة القريبة منه، وكنت جداراً إضافياً في زحام الأكتاف والعيون، كان علي أن أراقب كل شي، التفاصيل، الملامح، الزوايا، الصمت، التصفيق، الإشارات، اللهفة، كل شيء.


وفي لحظة شعرت أني لست ضمن الدائرة القريبة من أحمد علي عبدالله فقط، بل قريب من شيئاً أكبر، أثقل، أعمق، كأن اليمن نفسها كانت فوق كاهلي، بحجمها، بملامحها، بمخاوفها.


كنت أراقب خطواته، وحين التفت خلفه بابتسامة خفيفة لم أدرك هل هي لطمأنتنا نحن أم للناس الذين لم يتوقفوا عن التزاحم لملامسته، لمصافحته، لالتقاط شيء من حضوره.


ثم أنني، كالعادة، أستلقي بعد كل هذا، أراقب سقف الفندق كما لو أنه شاشة عرض لتلك الوجوه، لأصوات مكتومة، ليد ترتفع من بين الزحام، والسؤال لا يزال يتردد في أذهان الناس وملايين اليمنيين الذين تابعوا عن بُعد حضور نجل الرئيس الشهيد علي عبدالله صالح، هل عاد؟ وهل سنبقى ننتظر العودة دائماً؟ ربما الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال، أما نحن لا نملك سوى الانتظار للحظة عودة الكرامة اليمنية لكل بيت انهكتها الحرب والتعب.


ما قالته أمي منذ سنوات يبدو أنه واقعاً، نعم مازال الشهيد صالح باق في ذريته، حتى الأمهات لهم حدس ليس سهلاً ولا يُستهان به، لكنني أكتبه، فقط لأن الكتابة أقل كلفة من التفكير، وأشد وقعاً من الصمت، وأكثر أماناً من الانحياز.


ثم أنني وللحظة، شعرت أن الطواحين في رأسي هدأت قليلاً، ربما لأن وجه أحمد علي عبدالله صالح، وهو يلوح للحشود، بدا لي كمن يحمل شيئاً من الإجابة التي يبحث عنها الجميع، دون أن يملك أحدهم الشجاعة ليسأل.


ختاماً:


لا أزعم أنني قلت كل شيء، ولا أنني فهمت تماماً ما جرى، لكنني على الأقل كنت هناك، حاضراً في مشهد كان زفة عائلية وومضة ذاكرة وطنية، ترجمتها العيون قبل الشعارات، وعبرت عنها النظرات قبل الكلمات، وربما حين يسأل أحدهم لاحقاً عن لحظة فارقة لم تُوثق بالكاميرا لكنها سكنت الوجدان، سأشير إلى هذا اليوم، هذا العرس، هذا الحشد، وهذه النظرة في عيون البسطاء، وكأنهم يقولون: ها نحن نكتب عودتنا، ولو بلقاء، لذلك أكتبه، لأن ما شعرت به لا يمكن أن يُكتم، ولأن الذاكرة حين تعجز عن النسيان، تلجأ للكتابة، عل الكلمات تريح ما لم تستطع الأيام أن تفسره.