في قلب أزمة أسعار الدواء التي ترهق المرضى وتستنزف جيوبهم يقف عنصر غير مرئي أمام عامة الناس لكنه حاضر بقوة في الكواليس العلاقة المالية بين بعض الأطباء وشركات الأدوية هذه العلاقة التي يفترض أن تكون مهنية خالصة لخدمة صحة الإنسان تحولت لدى البعض إلى مسار آخر تتغذى عليه المصالح الشخصية والمكاسب المادية على حساب المريض الذي يبحث عن الشفاء فإذا به يدفع ثمنًا أعلى وربما يتناول دواءً ليس هو الأرخص أو الأنسب لحالته.
تبدأ القصة من داخل مكاتب شركات الأدوية أو فروعها حيث يخطط المسؤولون لتحقيق أعلى المبيعات ولتحقيق ذلك يرسل هؤلاء مناديب متخصصين للتواصل مع الأطباء والترويج للأصناف العلاجية التي تنتجها أو تستوردها الشركة العرض بسيط وواضح يصف الطبيب منتجات الشركة لمرضاه وفي المقابل يحصل على نسبة أو عمولة تتراوح غالبًا بين 20% و30% من قيمة هذه الأدوية على الورق يبدو الأمر وكأنه اتفاق تجاري لكن في الواقع هو رشوة مقنّعة لأنها تؤثر بشكل مباشر على القرار الطبي الذي يجب أن يُتخذ بناءً على مصلحة المريض وحدها.
هكذا تتحقق المبيعات للشركات لكن المريض هو من يسدد الفاتورة فالعمولات التي تُدفع للأطباء لا تخرج من ميزانية الشركة كخسارة بل تُضاف ضمنيًا إلى سعر الدواء النهائي النتيجة أن الأسعار تبقى مرتفعة حتى في الأوقات التي يتحسن فيها سعر العملة أو تُعلن تخفيضات في السوق وفي المقابل يشعر المريض أن الانخفاض في سعر الصرف لا يصل إلى جيبه لأن الدواء لا يتأثر بالمنطق الاقتصادي العادل بل بالمصالح المزدوجة بين الطبيب والشركة.
المشكلة هنا ليست فقط في الشركات التي تدفع بل أيضًا في الأطباء الذين يقبلون فالطبيب الذي يُفترض أن يكون الملاك الحارس لصحة المريض يتحول في بعض الحالات إلى طرف في لعبة تجارية يوجه وصفاته الطبية نحو منتج معين لأنه سيحصل على مقابل مالي وليس لأنه الدواء الأكثر فعالية أو الأقل كلفة وفي ظل ضعف أو غياب الرقابة تستمر هذه الممارسات دون رادع حقيقي.
الهيئة العليا للأدوية نظريًا هي الجهة المسؤولة عن حماية المستهلك وضبط الأسعار يفترض بها أن تراجع الأسعار النهائية في السوق وتقارنها بسعر الاستيراد وأن تتدخل عند وجود فارق كبير بفرض سعر محدد لا يمكن تجاوزه لكن الواقع أن هذه الآلية إما غير مفعّلة أو يتم التحايل عليها ليبقى المستهلك تحت رحمة السوق والفوضى.
ضبط هذه الظاهرة يتطلب إرادة جادة من جميع الأطراف رقابة ميدانية صارمة على العلاقة بين الأطباء وشركات الأدوية إلزام الشركات بالإفصاح العلني عن أي مدفوعات أو حوافز مالية تقدم للأطباء ومعاقبة أي جهة أو شخص يثبت تورطه في رفع الأسعار على حساب المريض وفي المقابل يجب أن نذكر أن هناك أطباء شرفاء مخلصين لمهنتهم يرفضون هذه الإغراءات ويتمسكون بأخلاقيات العمل الطبي واضعين صحة المريض فوق أي اعتبار هؤلاء هم النماذج التي يجب أن تُرفع وتُحترم وهم الدليل على أن المهنة ما زالت تحمل في طياتها ضميرًا حيًا لا يتأثر بالمصالح.
لكن طالما أن الصمت مستمر والممارسات قائمة فإن أسعار الدواء ستظل مرآة تعكس هذا الخلل العميق في المنظومة وسيبقى المريض هو الحلقة الأضعف التي تدفع الثمن الأكبر.