محمد بن مُناذِر (ت 198 هـ) واحد من رجالات عصره، وعلم من أعلام الأدب والشعر في العصر العباسي الأول، من أبناء مدينة عدن، وعلم من الأعلام الأدبية والثقافية في العصر العباسي الأول، شخصية كبيرة، عاصرت وجايلت وعايشت وأثرت في كبار الأعلام في العصر العباسي، المعروف بأزها عصور الحضارة العربية الإسلامية، من الساسة والخلفاء: هارون الرشيد وابنه الأمين، وجعفر البرمكي، ومن الفقهاء: سفيان بن عيينة، ومن الأدباء: الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبو نواس وأبو العتاهية، وغيرهم كُثر، وتدل أخباره معهم على مكانته الكبيرة وأستاذيته الرفيعة، وهو شخصية متصلة كذلك بتاريخ مدينة عدن، منسوب إليها وإلى حلقة من حلقات تاريخها المجهول، وعلى الرغم من مكانتها، فقد كان من الشخصيات المجهولة.
يعود نسب ابن مناذر، بحسب هاني كرد في كتابه زاد المسافر في أخبار العدني ابن مُناذر، إلى "الحماحيين الحميريين الذين كانوا يسكنون ثغر عدن، كما صرح بذلك الهمداني، وتبعه البشاري في أحسن التقاسيم، فهو من البيوتات الرفيعة التي لها مقام مرموق وبيت معمور بالحسب والنسب والفضائل والمكارم". ثم شرع كرد في استقصاء نسب الحماحيين وجذورهم الموغلة في التاريخ، وبهذه المكانة في تبيان النسب يضع القارئ على ما يستقطب وعيه وتوقعاته من هذه الشخصية التي عاشت في حدود ثمانية وثمانين سنة حافلة بالأحداث والمنجز في علوم الفقه والحديث واللغة والأدب والشعر، في إطار مسارات الحياة التي يمكننا تقسيمها إلى ثلاث مراحل؛ عدنية وبصرية ومكية.
أما المرحلة العدنية، فهي تتصل بالميلاد والتنشئة، وقد "كان مولده في عدن حوالي منتصف القرن الثاني للهجرة". وبحسب ابن حجر العسقلاني، الذي كان هو نفسه عدنيًا في وقت ما، بعد أن مكث في عدن مدة محدثًا، وإليه ينسب المسجد العسقلاني في كريتر أحد أقدم أحياء مدينة عدن التاريخية، فابن مناذر "كان أصله من عدن، ثم تحول إلى البصرة، ثم رجع إلى مكة إلى أن مات"، وهذه المرحلة الأولى من الحياة (العدنية) بما يكتنفها من عناصر أساسية في أية سيرة، تحيل إلى التنشئة التي تظهر النباهة والذكاء وتلقي العلوم التأسيسية، وقد "ظل في عدن حتى استوعب ما عند أهلها من فنون وعلوم، ثم بدا له قرض الشعر وما إليه، ونفد صبره من البقاء في عدن"، هذه العبارة الموجزة في تحديد مسار حياة الشخصية تكتنز سرديًا في داخلها العديد من الأحداث والمواقف والقصص والأخبار، ما يعني أن المضمر في أحشاء الكلمات أوسع من المعلن، ولنا بعد ذلك أن نتخيل تفاصيل هذه المرحلة، على وفق ما هو معروف في الثقافة والتقاليد السيرية العربية الكلاسيكية، التي تقفز على المرحلة الأولى من حيوات الشخصيات الاعتبارية إلى ما هو جوهري وجدير بأن يروى، من وجهة نظرها، تغدو العبارة السالفة البالغة الوجازة مفتاحًا للتأويل والسرد المكتز لمن يقرأ مسار الحياة، ولأن عدن تتجاوز طموحه يقرر الانتقال إلى مكان يمنحه المزيد من الحضور والانتشار والشهرة.
ويعود غياب المروي من أخباره في هذه المرحلة لسببين؛ الأول أنه كان في بدايات حياته وقبل شهرته، ولم تكن أخباره وقتئذ لتستقطب الكتاب، والسبب الآخر، ولعله الأهم، أنه كان في بيئة لم تتسم بالتسجيل أو التأريخ، وكما ذكر محمد علي الأكوع متألمًا من زهد اليمنيين في التأريخ آنذاك، لأنهم "لا يعنون بتسجيل مفاخرهم ولا يدونون ذكر علمائهم الأعلام ورجالات أدباءهم العظام ولا زعمائهم الفخام ومالهم من محاسن وفنون ومعارف"، وإذن، فكان لا بد للعدني ابن مناذر أن يضرب في الأرض ويهاجر، إلى حيث يلبي طموحه، ألم يُنسب إلى ابن حنبل أو الشافعي نصيحة ثمينة لمن يطلب العلم والنباهة في قوله: "لا تسكن الريف، فيذهب علمك، فمن أراد العُلا هجر القرى"؟.
إضاءة: إذا أردت المزيد عن هذه الشخصية المجهولة، عد إلى:
1. كتاب زاد المسافر في أخبار العدني ابن مناذر، هاني عبدالحميد كرد، دار الوفاق، عدن، 2023.
2. القيمة التاريخية والأدبية في زاد المسافر، عبدالحكيم باقيس، مجلة أبحاث اليمن، جامعة عدن، العدد 51، 2024.