آخر تحديث :الأربعاء-17 سبتمبر 2025-01:17ص

نقد بلا هدم... وإصلاح بلا فوضى

السبت - 23 أغسطس 2025 - الساعة 12:00 م
محمد العنبري

بقلم: محمد العنبري
- ارشيف الكاتب


إن لكم الحق أن تطالبوا حكومتكم بالإصلاح ولكن في حدود المعقول والممكن ولكم الحق في أن تنقدوا ولكن على أن يكون النقد بانيًا لا هادمًا واذكروا دائمًا أن الحاكم قد يخطئ ولكن تقبلوا خطأه بصدر رحب ونقد مشبع بالعطف ومَكِّنوه من أن يصلح خطأه ومَهِّدوا له الاستقرار حتى يتوطد الحكم وتستقر الأسس فبعض الخطأ مع الاستقرار خيْرٌ مِنْ طلب الكمال مع التغيير المستمر واحرصوا أن يكون الحكم على أيديكم أحسن من الحكم على يد غيركم وقَدِّروا ما يواجه الحاكم من مشكلاتٍ سياسية عالمية ولاتُثْقِلوا كاهله بما تُحْدِثون من مشكلات يمكن تأجيلها .

إنَّ العلاقة بين الشعوب وحكوماتها هي علاقة جدلية معقدة تقوم على الأخذ والرد وعلى التوقعات والنتائج وعلى الأمل والإحباط في آن واحد ولقد جُبِل الإنسان على أن يطلب الإصلاح ويسعى وراء الأفضل لأنه يتطلع دائماً إلى حياة كريمة ومستقبل أكثر استقراراً ولكن ذلك لا يعني أن يتحول هذا الطموح المشروع إلى أداة فوضى أو وسيلة لتدمير المؤسسات فالحق في المطالبة بالإصلاح أمر لا يختلف عليه اثنان غير أن هذا الحق يجب أن يبقى في دائرة الممكن والمعقول بعيداً عن المبالغات والأحلام الحالمة التي قد تدفع المجتمعات إلى الدوران في حلقة مفرغة من الفوضى وعدم الاستقرار.

النقد كذلك حق أصيل للشعوب ولكن بين النقد الهدام والنقد البنّاء فارق شاسع النقد البنّاء هو الذي يضع يده على مواطن الخلل ولكنه لا يتوقف عند التشخيص بل يمد يده ليقترح العلاج ويسهم في سد الفجوة بين الحاكم والمحكوم أما النقد الهدام فهو أشبه بالريح العاتية التي لا تأتي بخير بل تقتلع ما هو ثابت وتزيد الشرخ اتساعاً حتى لو كان في الأساس ضعيفاً ومن هنا تأتي الحكمة في أن يتحلى النقد بالعطف والرغبة الصادقة في الإصلاح لا برغبة الانتقام أو التشفي أو الهدم.

الحاكم كأي إنسان ليس معصوماً من الخطأ بل هو أكثر عرضة له لأنه يتحمل مسؤولية جسيمة يتعامل مع ملفات معقدة وضغوط داخلية وخارجية وأوضاع سياسية واقتصادية لا يدرك تفاصيلها إلا من يعيشها عن قرب ولهذا كان من الواجب على الشعوب أن تدرك أن بعض الأخطاء يمكن تجاوزها بالصبر وأن تقبلها بصدور رحبة لا لأنها مثالية أو مقبولة في ذاتها بل لأنها أخف ضرراً من إشعال فتيل الاضطراب وزعزعة أركان الدولة إن الاستقرار السياسي والاجتماعي ركيزة أساسية للتنمية والتطور وبعض الأخطاء في ظل هذا الاستقرار، أفضل بمراحل من تغييرات متلاحقة لا تبقي ولا تذر فالتغيير المستمر مهما بدا جذاباً في ظاهره لا يصنع إلا الفوضى وفقدان الثقة وضياع المؤسسات.

ومن الحكمة أن يحرص الناس أن يكون الحكم في أوطانهم على أيديهم بقراراتهم وبإرادتهم الحرة لا على أيدي الغرباء الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الخاصة فالتجارب المريرة في التاريخ أثبتت أن الأوطان حين تفقد قرارها وتُترك فريسة للوصاية أو التدخل الخارجي فإن الثمن يكون فادحاً والنتيجة لا تكون سوى إضعاف السيادة وتفتيت النسيج الوطني ومن هنا تأتي المسؤولية المشتركة بين الحاكم والشعب فالواجب يفرض على الشعوب أن تحافظ على بنيتها الداخلية وأن تعطي لحكوماتها الفرصة لتثبيت الحكم واستقرار المؤسسات بدلاً من فتح الأبواب للآخرين ليقرروا مصيرها.

وليس من الحكمة أن تُثقل كواهل الحكومات بالمشكلات المفتعلة أو القابلة للتأجيل خاصة حين تكون هناك تحديات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أكبر تتطلب التركيز والموارد فالحاكم الذي يواجه أزمة عالمية أو يتعامل مع ملفات حساسة في علاقات بلاده الخارجية يحتاج إلى أن يلتف حوله شعبه وأن يمده بالدعم والثقة لا أن يغرقه في صراعات جانبية يمكن أن تُحل لاحقاً ذلك أن ترتيب الأولويات هو سر النجاح في إدارة الدول وما أكثر الأوطان التي انهارت لأنها استنزفت طاقاتها في صغائر الأمور وتركت كبائر التحديات تتفاقم حتى ابتلعتها.

إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي في جوهرها شراكة قائمة على الثقة والتوازن الحاكم بحاجة إلى النقد الصادق والاقتراحات البناءة ليُصلح ما يخطئ فيه والشعب بحاجة إلى قيادة تستمع لهمومه وتسعى لحلها بقدر ما تسمح به الإمكانات وحين يُدرك الشعب أن الإصلاح مسار طويل يتطلب صبراً وتدرجاً فإن النتيجة تكون أكثر رسوخاً أما حين ينجر وراء السرعة والعاطفة فإن الثمن يكون باهظاً من الفوضى وعدم الاستقرار.

ولذلك فإن أفضل ما يمكن أن يقدمه الناس لأوطانهم هو أن يجمعوا بين المطالبة بالإصلاح والوعي بحجم التحديات بين النقد والرحمة بين الغيرة على الوطن والصبر على بنائه فالأوطان لا تُبنى في ليلة وضحاها ولا يقوم الحكم المستقر على أسس متينة إلا حين يدرك الجميع أن بعض الأخطاء تُحتمل إن كان في احتمالها بقاء للدولة واستمرار لعجلة الحياة وأن طلب الكمال في السياسة وهم لا طائل من ورائه إن التوازن بين الطموح والواقعية هو سر بقاء الأوطان وصمودها في وجه الأزمات.