الثابت عن التطور بمعزل عن جميع التعاريف التي أوردت فيه، هو في الأول والأخير قانون كوني تمارسه جميع الكائنات الحية بلا استثناء بالفطرة، لكنه لمحدودية عمر الإنسان استحال المتابعة من قبله للأجناس الأخرى من غيره، فلم يرصد لديها خاصية من خواصه بالشكل الذي رصدها عند ذاته هو، وذلك بتفتح مداركه والمعرفة التي يجمعها ويعكسها على سلوكياته الحياتية بالتعاون وبالتناوب من الخاصة إلى العامة والعكس.
فما عاشته البشرية على مختلف العصور القديمة والحديثة، وصولًا إلى اكتشاف المعادن وتطويعها لصاحلها، ثم تتويجها باختراع الآلة وما أفضت إليه من إنجازات علمية مذهلة، يمكن لنا ضمّه جميعّا نسبة إلى نظرية العالم الفيزيائي ألبرت إنشتاين المجنونة ( الخيال أهم من المعرفة ) في عصر واحد وتسميته بعصر المعرفة وتبدأ نهايته من اختراع الإنترت والذكاء الاصطناعي، لينطلق عندها عصر الخيال الذي لا يعرف حدودًا له والمستوى الذي ينتهي إليه؟ والمأمّل فيه أن نتمكّن من التحكّم والتصرّف بما حولنا من المادة والأشياء المرتبطة بنا والمتعلقة بحياتنا المعيشية، عن طريق الإيحاء والتفكير المعزز بالشرائح الإلكترونية كوسيط تغنينا خوارزمياتها إلى حد بعيد عن الوسائط الجسدية والحسية التقليدية. لتبدو المسألة ومازلنا نتموضع في نطاق عصرنا الحالي ونتأهّب للمغادرة والانتقال إلى عصر جديد غريبة وأغرب ما يكون فيها يصبح المستحيل ومحض الخيال نعيشه حقيقة واقعة بأرواحنا!.
وبالنظر في ما حولنا إنطلاقا مما بلغناه من مستويات متقدمة، سنجده يقتصر على الجانب المادة والكم ولا يشتمل على جانب المُثل والأخلاق إلا في حدوده الدنيا، إذ مازلنا كبشر نختزن ونطوي بداخلنا غرائز تعود بنا لأصولنا الأولى، وفي أي لحظة إذا ما ضعف الرادع نفقد صوابنا ونندفع كوحوش نبطش بعضنا البعض ونهضم كل ما تناله أيدينا ويقع أسفل منّا... أي بالمعنى ما شهدته البشرية في المراحل الأخيرة من قفزات تكنولوجية متنوعة، هي في الأصل تتجاوز في بناءها المعرفي السلم القيمي للإنسانية مجتمعة، وبالتحديد تلك المفاهيم المتعلقة بالنظم القانونية التي تهذّب التطور ذاته فلا تسمح له الانحراف عن مساره، فبالرغم من الابتكارات المعلوماتية الهائلة التي جعلت الأرض كقرية واحدة، لم تستطع تحرير فكرها من الجمود وتطعيمه بمفاهيم حديثة تخلّصها من العصبويات القومية القائمة على الفعل والفعل المضاد، بما يجعل من بقاءها نسبة إلى الحفاظ على التنوع الحيوي والبيولوجي، أولوية قصوى وقاعدة مقدسة لا ينبغي لطرف المساس بها أو كسرها.
فثمة مراحل مرت بها مجتمعة، واجهت فيها الكثير من الصعاب والتحديات البسيطة والمركبة، لكنها بالمقارنة مع ما تصادفه اليوم من مشاكل صارت تعرف بالمعضلات فهي لا تساوي شيئًا، وقد أصبحنا نقف أمامها مكتوفي الأيدي وكأنّنا استسلمنا لقدرنا المحتوم، وهي بالمناسبة كثيرة ومن حيث المخاطر كلها تعد ذا أهمية، إلّا أن الأهم منها الذي بدأ يتفلّت في الأونة الاخيرة، كسلاح الدمار الشامل والتغيرات المناخية الناتجة عن الاحتباس الحراري، واحد بوصوله إلى أيادٍ توصف بالمتهورة والطائشة، والآخر غدى بشكل مفاجئ لما يحدثه من هزات متوالية وعنيفة وما يخلّفه من أضرار جسيمة هنا وهناك ودون سابق إنذار، يمثل بعد عالمي مرعب ومخيف.
ومن هذا المنطلق وما انتهينا إليه من حيرة في أمرنا، بالتأكيد نحن بأمس الحاجة لمعجزة تنائ بنا عن الغرق الذي ينتظرنا وتتكفّل أن لا نعود إليه مرة أخرى، وربما يكون الذكاء الاصطناعي هو بمثابة قدر وحكمة من الله ساقها إلينا وأراد له أن يكون العصا السحرية الذي بإمكانه يلعب دور الربان المتجاوز بنا عمق البحر المتلاطم وظلماته الموحشة، ليعيد بلورتنا وفق نظام يأطر طبيعتنا المعرفية الواقعية وما أفرزته على جانبيها من تقدّم ومن قصور على حد سوى، إلى الطبيعة الميتافيزيقية نتعامل فيها مع المادة بحسب النوع والكيف بدلًا من الكم، وبذلك تخف وطأة المصيبة فينا وتضعف إلى درجاتها الدنيا.
فكما هو واضح ومن خلال الإنجازات المذهلة التي حققها ويحققها على كل يوم ولحظة، بأنه بالفعل بدأ يقود ثورة على مختلف المستوايات والصعد، ويحاول قبل فوات الأوان استباق الزمن وقلب أنماط حياتنا وأعرافها السائدة بشكل جذري، وعلى نحو من البراجماتية العامة التي من خلالها سيضع حدّا لكثير من المظاهر السلبية ويحكمها بضوابط متينة لاتنفك، وليجعلنا عندها ننساق كأفراد وجماعات وأمم متفرقة تحت مظلة قومية مشتركة تتسم بروحانية هادفة، تتسق مع مفهوم الإنسانية كوحدة مشتركة تتكامل مع بعضها البعض بمعزل عن العنصرية المقيتة وإفرازاتها المختلفة.
فالمآخذ التي تؤخذ عليه بأنه قد يتمرّد على الإنسان في نهاية المطاف ويفتك به، تلك نظريات مبالغ فيها وما دامت لا تستند على أساس علمي بالتجربة والبرهان ستبقى مجرد ترّهات إلى أن يُثبت العكس، فليس الخوف من ذلك بقدر ما هو الخوف من التعاطي الغير عقلاني للإنسان ذاته مع إنجاز كهذا، لنشهد بعدها ذكاء أصطناعي متعدد القوميات والأعراق والطوائف.... يتشابه إلى حدٍ بعيد ما نحن عليه اليوم، فبدلًا ما يذيب الحواجز ويساعد على الانفتاح الاندماج الحضاري، يؤدي لتعميق الاختلاف وليجعل من كل جماعة ولون عالم منفصل بذاته، وبالتالي نصبح أمام عوالم متنوعة كلًا منها يدور في فلكه الخاص يتعذّر على الآخر مشاركته والتفاعل معه.
فما يذاع ويسرّب من الغرف المغلقة عن التجارب السريرية التي تجريها شركات عالمية رائدة في هذا المجال يحبس الأنفاس ويِدمغ العقل، وهي كمن تضعنا أمام بوابة قيصر ننتظر يطل علينا بمفاجأة تقلب جميع الموازين، لتتحول بعدها الكثير من ممارساتنا وعاداتنا من الماضي ومجرد تاريخ للذكرى وهناك ما يقوم مقامها؛ فمثلًا ما يخص قطاع التعليم باعتباره الركيزة الأساسية التي تعتمد وتتفرع منها جميع المجالات: فما تلقاه الفرد من معلومات لسنوات وعقود وهو منكبٌّ على التحصيل الدراسي، يحصل ما يربو عليه بألآف المرات في ساعات أن لم يكن في دقائق عن طريق رقاقة تلسق بالعصب الرئيسي للدماغ تساعد صاحبه على استيعاب المعلومات ولتبصره بكيفية الإستفادة منها وتبادل الخبرات معها وتطويرها.
فلا غرابة بمقتضى صرخة كهذه لو قدّر لها وتحققت لتضاف إلى صرخات قبلها، وذلك لقيام شركات بتطوير هواتف محمولة بإمكانها تقرأ أفكارنا ومشاعرنا، وتستنبط عاداتنا وتقاليدنا وترصد تحركاتنا وتتبع خصوصياتنا وقد تنقلها لجهات غير معلومة دونما نأذن لها بنقلها... بهذا الشكل لو قلنا ربما يأتي علينا زمن نحاكي فيه الخلود الأبدي إلكترونيًّا، فنتمكن من تخزين ذكرياتنا وأساليب حياتنا المعيشية، والوسط الذي حولنا من عادات وتقاليد وبصمات تخص نبرات أصوتنا ومرأياتنا وعلى مراحل حياتنا من الميلاد إلى يوم الوفاة، لدى خوادم تدار بالذكاء الاصطناعي، تدوّنها على شكل تطبيق يحتفظ لنا بها كشفرة جينية متكاملة، بما يمكّن الأقرباء والأصدقاء بعد موتنا التفاعل عبرها وكأننا أحياءً نرزق.
فلطالما تساءل الإنسان كثيرًا عن كيفية البعث وهناك من أنكرّ عن وجود حياة ثانية وشككّ في كلام الرسل والأنبياء بقدرة الله عزّ وجل إحياؤنا من جديد، وتلك أسئلة عظمى لم يتسع لها عصر المعرفة ومازلت مثار جدل بين الفلسفتين المادية والمثالية ليومنا هذا، لكن ربما يتسع لحلها لاحقًا عصر الخيال، وذلك بما يحمله من آفاق لا حدود لها، قد تمكّن الإنسان وعلى ضعفه من فك شفرات كان يعتبرها ذات يوم تتجاوز قدراته الإدراكية والحسيّة، ومحاولة التفكير فيها ومناقشتها صار تخطّي للخطوط الحمراء وبالأصح ضرب من الجنون والهلوسة. وبالتالي ما كان يُخشى منه ويحسب يومها انتكاسة للثوابت الدينية والعقائدية، يؤول داعمًا ومقويًا لرابطتنا كبشر بخالقنا، ليسود بعدها الإيمان المطلق والزهد مقابل تراجع الفكر الإلحادي إلى مستويات سفلى إن لم يكن انعدامه بالمرة.
فكما يتبيّن أن من يشتغلون في هذا الشأن وينحون في هذا الطريق المثير للقلق، هم أنفسهم يجهلون المدى الذي سيصلون إليه، والشاكلة التي سيكون عليها رقمنة إنسان المستقبل، والألغاز والأسرار التي ستكشف وتفتح أمامه؟ وعلى هذا النحو من الأسئلة الفلسفية الأزلية عن علاقة الإنسان الوجودية بالمادة وما بعد الحداثة، ستبقى أمور كل ما يقال عنها وما نقوله فيها مجرد تكهّنات، وهي أكبر وأعظم من تبلغه مقدرات بشر عادي، مهما كان نفاذ بصيرته وسطوته يستحال يدركها، فما يدركها سوى الحكيم الخبير فهو القادر وحده أن يقول للشيء كن فيكون!.