آخر تحديث :الأحد-07 سبتمبر 2025-10:31م

العقد الاجتماعي… من النصوص السياسية إلى المصالحة العادلة

الخميس - 04 سبتمبر 2025 - الساعة 06:22 م
د. محمد عبدالمجيد قباطي

بقلم: د. محمد عبدالمجيد قباطي
- ارشيف الكاتب


العقد الاجتماعي… حجر الزاوية للدولة

الحديثة

ما من أمة بلغت مرحلة الاستقرار السياسي وبناء الدولة الحديثة إلا بعد أن نجحت في صياغة عقد اجتماعي راسخ يشكّل المرجعية الجامعة التي تسبق النصوص الدستورية وتمنحها معناها وقوتها. فالدساتير قد تُكتب بأجمل العبارات وأرقى الصياغات، لكنها تبقى أوراقًا معلّقة إن لم تستند إلى عقد اجتماعي يُجسّد التوافق المجتمعي ويحوّل التعدد إلى طاقة تعايش.


من هوبز إلى روسو… تعدد الرؤى وتكاملها

لقد أظهرت التجربة الإنسانية أن العقد الاجتماعي لم يكن يومًا وليد لحظة عابرة أو إلهامًا فلسفيًا مفاجئًا، بل حصيلة مسار طويل من الصراعات قبل أن يستقر في وعي الناس كمرجعية حاكمة. فمنذ القرن السابع عشر، تناول كبار الفلاسفة هذه الفكرة كلٌ من زاويته: فرأى توماس هوبز أن الإنسان في حالة طبيعية مليئة بالخوف والصراع لا يخرج منها إلا بالخضوع لسلطة قوية تحفظ النظام والأمن، بينما اعتبر جون لوك أن الدولة تنشأ لحماية الحقوق الطبيعية للإنسان – الحياة والحرية والملكية – وأن أي سلطة تتجاوز ذلك تفقد شرعيتها. أما جان جاك روسو فقد ارتقى بها إلى مستوى الإرادة العامة للشعب، مؤكدًا أن العقد الاجتماعي ليس مجرد وسيلة للهروب من الفوضى، بل إطارًا لصياغة العدالة والحرية الجماعية.

هذه الرؤى المتباينة توضح أن العقد الاجتماعي لم يكن فكرة واحدة جامدة، بل اجتهادات متعددة تبحث عن صيغة متوازنة بين الفرد والمجتمع والدولة. واليمن اليوم لا يحتاج إلى استنساخ هذه التجارب كما هي، بل إلى الإبداع في صياغة عقده الخاص الذي يستوعب خصوصياته ومظالمه ويمنح أبناءه شعورًا بالشراكة العادلة في وطن واحد.


اليمن بين العقد السياسي والعقد الاجتماعي

في الحالة اليمنية، لم يعرف تاريخنا الحديث عقدًا اجتماعيًا صلبًا. فالوحدة عام 1990 بُنيت على اندماج سياسي سريع دون أسس عقدية واضحة، فتحولت إلى هيمنة مركزية فجّرت حرب 1994 وأنتجت جروحًا لم تلتئم. مخرجات مؤتمر الحوار الوطني (2013–2014) كانت أقرب محاولة لصياغة عقد سياسي–اجتماعي جديد: طرحت الفيدرالية، عالجت القضية الجنوبية، وأكدت على العدالة والمشاركة الواسعة وتوزيع عادل للسلطة والثروة. لكنها انهارت تحت ضربات الانقلاب الحوثي–الصالحي وما رافقه من اغتيالات وإرباكات أمنية، فظلت نصوصًا بلا تطبيق ولم تتحول إلى ميثاق عيش مشترك راسخ.

الفارق هنا جوهري: العقد السياسي قد يوفّر توافقات بين النخب، لكنه يظل هشًا ما لم يتحول إلى عقد اجتماعي تُجذّره القاعدة الشعبية ويشعر به المواطن في حياته اليومية: عدالة انتقالية، مواطنة متساوية، شراكة فعلية في السلطة والثروة.


المصالحة الوطنية كجسر للعقد الاجتماعي

إن أي عقد اجتماعي منشود لا يمكن أن ينفصل عن استحقاقات المصالحة الوطنية. لكن هذه المصالحة ليست شعارًا شكليًا ولا صفقة سياسية فوقية، بل آلية تأسيسية لإعادة بناء الثقة وترميم النسيج الوطني. وهي، في الوقت ذاته، لا تعني محو الفارق بين الضحية والجلاد، ولا مساواة من دافع عن مشروع الدولة بمن انقلب عليها. فالعدالة هنا ضمانة سياسية، وليست مجرد مطلبًا أخلاقيًا، لأنها وحدها التي تمنع إعادة إنتاج المأساة وتحول دون تكرار دوامة العنف.

إن المرجعيات الثلاث – المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني، والقرار 2216 – تظل قاعدة ضرورية لأي تسوية، لكنها بحاجة إلى تطوير وصياغة عقد اجتماعي جديد يترجمها إلى واقع جامع، ويعالج جذور الانقسام، وفي مقدمتها القضية الجنوبية. فالجنوب لم يعد مجرد ملف ملحق، بل طرف أصيل أثبت حضوره سياسيًا وعسكريًا، وأي محاولة لتجاوزه أو اختزاله ستعيد الأزمة إلى نقطة البداية. أما الاعتراف بدوره وصياغة شراكة متوازنة فسيمنح اليمن فرصة تأسيس دولة اتحادية عادلة قادرة على الصمود.


ملامح العقد الاجتماعي المنشود

-مواطنة متساوية: بلا سلالة ولا جغرافيا ولا مذهب يعلو على غيره.

-شراكة شمالية–جنوبية متوازنة: تعالج المظالم التاريخية وتفتح المجال لفيدرالية مرنة تحترم خصوصيات الأقاليم.

-عدالة انتقالية: تنصف الضحايا وتعالج الجراح بروح وطنية لا بمنطق الانتقام.

-دمج القوى المحلية: التي نشأت في غياب الدولة ضمن مؤسساتها الشرعية لتثبيت الاستقرار.

-ربط السياسة بالاقتصاد: فبغير إعمار وتنمية وخدمات وفرص عمل، لا يبقى السلم الأهلي طويلًا.


خاتمة: عقد للعدالة والعيش المشترك

إن العقد الاجتماعي الذي نطرحه ليس ترفًا فلسفيًا ولا تنظيرًا مجردًا، بل دعوة جادة إلى إعادة اكتشاف ذواتنا الجمعية وصياغة ميثاق عيش مشترك يليق بتضحيات شعبنا وتاريخه العريق. مصالحة وطنية مسؤولة، تستند إلى العدالة وتستوعب التنوع، هي الجسر لترجمة هذا العقد من نصوص إلى مؤسسات ومن شعارات إلى واقع.

اليمن اليوم أمام لحظة فارقة: إما أن نغتنمها لبناء دولة اتحادية عادلة تقوم على المواطنة والشراكة، أو نكرر مآسي الماضي في دورات جديدة من العنف والانقسام. إن الشجاعة الحقيقية أن نقول بوضوح: لا دستور بلا عقد اجتماعي، ولا عقد بلا مصالحة عادلة، ولا مستقبل بلا شراكة ومواطنة متساوية.