آخر تحديث :الأحد-07 سبتمبر 2025-11:01م

الوطن مثل العملة في بورصة العالم

الجمعة - 05 سبتمبر 2025 - الساعة 02:13 م
عبدالناصر صالح ثابت

بقلم: عبدالناصر صالح ثابت
- ارشيف الكاتب


الوطن أشبه بعملة في بورصة العالم، لا تُقاس قيمته بما يملكه من نفط أو ذهب، بل بما يختزنه أبناؤه من عزيمة وكرامة وانتماء.

فحين تكون العملة قوية، يثق بها العالم وتُفتح أمامها الأبواب، وحين تنهار تُصبح بلا قيمة حتى في أيدي أصحابها. والوطن كذلك:

إذا انهار داخليًا، فلن يعترف له الخارج بوزن ولا بمكانة.

حين يتشقق الداخل وتتبعثر أوراق الوطن في صراع على السلطة والنفوذ، لا يتوقف الانهيار عند حدود الجغرافيا. إنه سقوط

يلاحق أبناءه في المطارات، في المخيمات، وفي طوابير الانتظار الطويلة أمام مكاتب اللجوء. الداخل ينزف ألماً، والخارج

يطارده بوصمة العجز والانكسار.

الذين صمدوا في الداخل لم يسلموا من مرارة العيش وسط الانهيار، والذين هاجروا بحثًا عن مخرج اضطراري لم يفلتوا من لعنة

وطن صار جواز سفره مثقوبًا؛ يفتح أبواب الغربة لكنه يغلق أبواب الاحترام. لم يعد الوطن مشروع بناء، بل تحول إلى مشروع

هروب، حيث تُستنزف العقول والطاقات في البحث عن ملاذ بديل بدل البحث عن مكانة تُعيد للوطن اعتباره.

وفي كل لقاء يجمع اليمنيين، تتكرر الحكاية: أحلام هجرة، طلبات لجوء، وطرق ملتوية لعبور الحدود نحو المجهول. شباب

يغامرون بأرواحهم في البحار بحثًا عن “الأمل”، ذلك الأمل الذي قد يتحول إلى نعش عائم في عرض البحر. أما في الداخل،

فيتداعى اسم الوطن في بورصة العالم، متذيلاً المؤشرات الدولية في الفقر والهجرة والأمية والفساد، حتى صار ذكره خاتمة

رسمية لكل القوائم والإحصاءات.

لم نعد نسمع عن طموحات تُبنى في الداخل، ولم يعد لأحد ما يتفاخر به. بل إن كثيرين باتوا يخجلون من الإفصاح عن جنسيتهم

التي تاهت في سراديب التشظي والصراع والهوان. وطن بلا وزن، وأجيال بلا مستقبل. بعضهم على أبواب اللجوء في هولندا

وبلجيكا وبريطانيا وكندا وغيرها، وبعضهم محاصرون في الداخل بلا أفق ولا مؤسسات ولا خدمات. مؤسسات هشة، وثروات

تُهدر في متاهة الفساد.

لقد زُيّف الوطن بكل أشكال الزيف، حتى غدا الحلم الوطني مجرد خيال مكسور. وحتى إذا توقفت كارثة الانهيار يومًا ما، فإن

تراكمات هذه الحقبة ستظل كومة من المآسي: أجيال تائهة، ثروات منهوبة، وسلوكيات اجتماعية شوهتها سنوات الانهيار. وما

نسمعه اليوم عن فساد “ملفات الإعاشة”، أو عن المنح الدراسية المباعة، أو عن الرواتب التي تُصرف بالعملة الصعبة في

الخارج، ليس سوى انعكاس لعمق الكارثة التي لم تدمر المؤسسات فحسب، بل نخرت القيم وأفسدت الوعي والضمير الوطني.

لقد تحولت الأزمة من معركة على الأرض إلى معركة على الأخلاق، ومن نزيف اقتصادي إلى نزيف إنساني. وأعادت صياغة

الإنسان ليعيش في دائرة النجاة الفردية بعدما تبخر حلم النجاة الجماعية. ومع كل يوم يمر، يتضح أن إعادة بناء الحجر قد تكون

أسهل بكثير من إعادة بناء الإنسان.

ورغم كل هذا السواد، يبقى الأمل مثل عملة تحت الرماد؛ قد تفقد قيمتها لسنوات، لكنها لا تموت. وإذا قرر أبناؤها أن يعيدوا إليها

الثقة، فستعود لترتفع في بورصة العالم، لا بالذهب ولا بالنفط، بل بالحكمة والإرادة، واستعادة قيمة الوطن الأصيلة، كما كانت في

الدينار والريال عشية ما قبل الوحدة.