لا يختلف مسلمان على أن المولد النبوي الشريف مناسبة إيمانية عظيمة، تحتل مكانة خاصة في وجدان الأمة، إذ فيها يستحضر المسلمون مولد من أرسله الله رحمة للعالمين، ومن جسّد أسمى معاني الإنسانية والعدل والتسامح. هي ذكرى تعيد القلوب إلى أصل النبوة، وتدفع العقول لاستلهام القيم التي قامت عليها الرسالة المحمدية الحرية من الطغيان، والرحمة بالضعفاء، ونشر الهداية في الأرض. غير أن هذه القدسية التي تفيض روحًا وطمأنينة، تحوّلت في اليمن تحت سيطرة ميليشيا الحوثي إلى ساحة مظلمة للتوظيف السياسي والابتزاز المالي والتضليل العقائدي. إن المولد النبوي ليس مجرد احتفال شكلي أو مهرجان جماهيري، بل هو مناسبة لربط المسلمين برسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم، تذكّرهم بصفاته وسيرته العطرة، وتدفعهم لمراجعة أنفسهم في ضوء الرسالة التي حملها. فالأمة، مهما تفرقت بها السبل، تجد في ذكرى المولد نقطة التقاء جامعة تتجاوز الخلافات. ومن المؤسف أن يتحوّل هذا اليوم المبارك، في ظل حكم الحوثيين، إلى مصدر انقسام ومجال صراع على الهوية والولاء. من المفترض أن يكون المولد محطة إيمانية وروحية تعزز الوحدة والتآلف، غير أن الحوثيين جعلوه موسمًا لتكريس سلطتهم وفرض وصايتهم على الناس. بدلاً من أن يُرفع اسم النبي في ساحات الذكر والتأمل، ترفع شعارات الموت واللعن والكراهية. وبدل أن تُستحضر أخلاق الرسول وسيرته، يُستغل المولد لتلميع قادة الجماعة وشرعنة جرائمهم بحق اليمنيين. ميليشيا الحوثي لا ترى في المولد النبوي إلا فرصة لتثبيت مشروعها الأيديولوجي، عبر حشد الناس قسرًا إلى ساحات الاحتفال التي تتحول إلى منصات سياسية ترفع فيها شعارات الموت والعداء، بدل أن تُتلى فيها آيات الرحمة والسيرة النبوية. ويكفي أن نتابع خطاب قيادات الجماعة في هذه المناسبة لنجد كيف يغيب الحديث عن أخلاق النبي وسيرته، ليحلّ مكانه تمجيد “الولاية” وتبرير الحرب واستمرار النزيف اليمني. الأكثر بشاعة من الخطاب هو السلوك المالي المصاحب. فالحوثي لا يعرف من المولد سوى عائداته المالية، فقد حول الحوثيون المولد إلى موسم سنوي للجبايات، حيث تُفرض على التجار والشركات والمواطنين إتاوات تحت مسميات متعددة “دعم الفعالية”، “المساهمة الوطنية”، “الوفاء للرسول” ومن يرفض الدفع يُهدد بالملاحقة أو إغلاق محله أو تلفيق تهم العمالة والخيانة ضده. ويتم الضغط على المدارس والمؤسسات الحكومية لتزيين الشوارع والمقار، بينما يعيش ملايين اليمنيين في فقر مدقع وانعدام للأمن الغذائي. هكذا يختلط المقدس بالدنيوي في أبشع صوره استغلال الدين لتجويع الناس، وتوظيف اسم النبي الكريم لتكديس الأموال. في صنعاء ومناطق سيطرة الحوثي، تُصرف الملايين على أضواء الاحتفالات والمنصات العملاقة والرايات الخضراء، فيما المستشفيات بلا دواء، والمدارس بلا مقاعد، والأطفال يفتشون عن كسرة خبز. المفارقة المؤلمة أن ذكرى مولد من قال “أطعموا الجائع” و”ارحموا الضعيف”، تُستغل اليوم لإهدار المال العام وتعميق المعاناة الإنسانية. أي إساءة أكبر لرسالة النبي من أن يُستخدم اسمه لتبرير الفساد وشرعنة البذخ في بلد يعاني من المجاعة ؟ بينما يئن اليمنيون من الفقر والجوع وانعدام الخدمات، يصر الحوثي على إقامة مهرجانات صاخبة تُنفق عليها الملايين، لإضفاء هالة كاذبة من العظمة على قيادته. أضواء، شاشات عملاقة، مسيرات عسكرية، ورايات خضراء تملأ الشوارع، لكنها لا تطعم طفلًا جائعًا ولا تداوي مريضًا يبحث عن جرعة دواء. إنهم يرقصون على جراح الناس ويحوّلون قدسية المولد إلى مسرحية قبيحة لتلميع مشروعهم الطائفي. الاحتفالات الحوثية ليست مجرد طقوس، بل هي أدوات للهيمنة الاجتماعية. إذ يُجبر الطلاب والموظفون على الحضور، وتُستخدم المناسبات لغرس خطاب طائفي في العقول، يربط قدسية النبي بقدسية مشروع الجماعة وزعيمها. وهكذا يُختزل المولد النبوي في كونه بوابة لفرض الولاء السياسي، بدل أن يكون جسرًا للتآلف بين المسلمين. الفرق شاسع بين من يحتفل بالمولد بروح المحبة والرحمة، وبين من يستغله لتمويل حروبه وتكريس سلطته. المعنى الأصيل للمولد هو التذكير بأن النبي جاء ليحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، بينما المعنى الحوثي المحرّف هو إخضاع الناس لعبادة الجماعة وتقديس قادتها. وفي هذا التناقض يظهر جوهر المشكلة اختطاف الدين لخدمة مشروع سياسي ضيق، وتشويه المناسبة المقدسة لتصبح وسيلة قمع ونهب. بينما جاء الرسول ليحرر الناس من عبودية الطغاة، يستخدم الحوثيون اسمه لإعادة اليمنيين إلى عبودية جديدة تحت سلطة السلاح والكهنوت. إنهم يسلبون المناسبة معناها الأصيل، ويستبدلونه بطقوس جوفاء لا تخدم سوى مشروع فارسي دخيل يتستر بعباءة الإسلام. المولد النبوي أسمى من أن يُحاصر في خطاب طائفي أو يُحوّل إلى صندوق جباية. إنه ذكرى جامعة، تهتف بالوحدة لا بالانقسام، وتذكّر بالرحمة لا بالبطش، وتدعو للتكافل لا للاستغلال. وما يفعله الحوثيون لا يعدو كونه خيانة لمعنى المناسبة، وإهانة للرسول الذي جاء ليكسر قيود الاستبداد ويعلّم البشرية معنى الحرية والكرامة. وستظل قدسية المولد أرفع من كل محاولات التشويه، لأن نور النبي لا يُطفأ بظلام الاستغلال، ولأن الأمة ستبقى قادرة على التمييز بين المعنى النبوي الأصيل، والبشاعة الحوثية الطارئة.