في صباح ثقيل كجدار الحصار الذي يطبق على المدينة منذ سنوات، إستيقظت تعز على خبرٍ أشد من كل أوجاعها السابقة، خبر إخترق صدور الأحرار قبل أن يخترق جدران المواقع الإخبارية
اغتيال إفتهان المشهري مديرة صندوق النظافة والتحسين – امرأة بلا سلاح، بلا حراسة، بلا حماية سوى حبها لهذه المدينة وإصرارها على أن ترى تعز نظيفة كحلمها.
إفتهان حملت المقرمة بدلاً من البندقية، وحملت ضمير المدينة بدلاً من شعار الفصائل، فواجهتها رصاصات الغدر التي لم تكتفي بإسكات صوتها، بل أغرقت الشوارع بدمها وكأنها تقول لنا جميعاً "النقاء هنا ممنوع، والشرف جريمة عقوبتها الموت"
أي مدينة هذه التي تصوب بنادقها إلى أنقى نسائها؟
أي رجال هؤلاء الذين لم تهتز رجولتهم إلا أمام امرأة وحيدة بلا مرافقين ولا حماية؟
أي سقوط أخلاقي هذا الذي يجعل من جسدها الطاهر هدفاً لعشرين رصاصة؟
إفتهان لم تكن موظفةً عابرة. لم تكن تبحث عن راتب أو وجاهة. إختارت أصعب منصب في أصعب وقت، في صندوق لم يصمد فيه إلا الفاسدون. جاءت لتقول إن المدينة يمكن أن تُغسل من قذارتها، وإن الشرف ليس شعاراً يُرفع في المظاهرات بل فعلٌ يومي، وإن تعز تستحق وجهاً أجمل مما آلت إليه.
لكنهم قتلوها.. قتلوها لأنهم يكرهون الجمال، يكرهون النقاء، يكرهون أن يروا نموذجاً شجاعاً يفضح قبحهم ويذكّرهم بأن المدينة ليست قدرها القذارة والفوضى.
هذا الإغتيال لم يكن جريمة قتل عادية، بل إغتيالاً لقيم الثورة والجمهورية والمقاومة والمدنية معاً. إغتيالاً لفكرة أن تعز يمكن أن تكون مختلفة، وأن الأمل يمكن أن يعيش رغم الرصاص.
إن من إغتال إفتهان لم يقتلها وحدها، بل قتل الأمل فينا جميعاً. جعلنا ندرك أن الإنقلاب ليس في صنعاء وحدها، بل في كل شارع تُرفع فيه بنادق القتلة بلا حساب. الإنقلاب الحقيقي هو حين تصبح شريعة الغاب هي القانون، وحين يكون الصمت تواطؤاً، وحين ندفن شهداءنا ثم نعود إلى حياتنا وكأن شيئاً لم يحدث.
تعز اليوم تبكي إبنتها النبيلة، تبكي بحرقة مدينة تعرف أن دماء إفتهان ستبقى تصرخ حتى تتحقق العدالة. تبكي لأنها تُدرك أن صمتها اليوم يعني أن الضحية القادمة قد تكون كل ما هو عظيم في حياتنا، كل ما تبقى لنا من قيم.
رحم الله إفتهان المشهري، وجعل دمها لعنة على القتلة، وصحوة لمدينة أرهقها الصمت، وألهمنا جميعاً أن نطالب بالعدالة حتى لا يصبح الغد نسخة أسوأ من هذا اليوم.