بقلم: محمد علي محمد أحمد
في الرابع عشر من أكتوبر من كل عام، تتجدد ذكرى غالية ومحطة تاريخية فارقة في وجدان كل جنوبي، إنها الذكرى الثانية والستون لـ "ثورة 14 أكتوبر 1963م" المجيدة، الثورة التي غيّرت وجه التاريخ الجنوبي وأعلنت فجر التحرر من استعمار بريطاني جثم على أرض الجنوب العربي ما يقارب 129 عاماً.
عاش فيها شعب الجنوب تحت وصاية إمبراطورية تاريخية ودولة ذات ثقل عالمي، وبالرغم من كونها قوة احتلال، إلا أن تلك الحقبة شهدت إقامة مشاريع حيوية في مختلف جوانب الحياة، وقد نالت بعض هذه المشاريع سمعة عالمية وحازت على مراكز متقدمة، ولعل أبرزها على سبيل الذكر لا الحصر مصافي عدن وميناء عدن التاريخي ، بل إن العاصمة عدن في تلك الفترة كانت تنافس مدناً وعواصم عالمية وتجاوزت العواصم العربية في نظامها، تعاملاتها، أمنها، استقرارها، وحياة مواطنيها الكريمة والمتساوية دون تمييز طبقي أو عرقي.
وبعد نيل الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، استمرت عدن محافظة على نسيجها الاجتماعي المتماسك وروح الدولة المدنية، وكانت منبعاً ومنطلقاً للثورات التحررية وملاذاً آمناً للحركات الشعبية في المنطقة وخارجها، شكّل الجنوب دولة عربية ديمقراطية وليدة في المنطقة، سعت للحفاظ على استقلالها وهويتها.
وللأسف، لم تدم حالة الاستقرار طويلاً، حيث بدأت المؤامرات الكيدية الممنهجة والدعم السخي من قوى إقليمية ودولية تستهدف هذا النظام العربي الوليد، مما أدى إلى فتن عظيمة ونزاعات داخلية، كانت آخرها نكبة 13 يناير 1986م من أوجع وأقسى الصراعات الداخلية، والتي أدت لاحقاً إلى الهرولة لفخ "الوحدة" المشؤومة في 22 مايو 1990م، تلك الوحدة التي خُطِّط لأجلها كل ما سبق.
ولم تمر سوى أربع سنوات حتى استيقظت القيادات الجنوبية على خطأها وإحساسها بوطأة التضييق، وتحوُّل الشعب الجنوبي إلى ما يشبه "الرقيق"، ومع اندلاع حرب صيف 1994م، لم تكن القيادات الجنوبية على المستوى المطلوب من الحنكة السياسية والتنسيق، مما أدى إلى الإجهاز على ما تبقى من قوة للجيش الجنوبي وإحكام السيطرة الكاملة على الجنوب بحجة الدفاع عن الوحدة، وصولاً إلى فرض سياسة حكم المنتصر في 7 يوليو 1994م.
ومنذ ذلك اليوم، والجنوب أرضاً وإنساناً يرزح تحت سيطرة كاملة لاحتلال نظام صنعاء، الذي عبث بمقدراته، وتقاسم أراضيه وثرواته، ونشر قواته العسكرية بأعداد هائلة وبأسلحة ثقيلة في كل المناطق الجنوبية الحساسة والآبار المنتجة للوقود والمنافذ البرية والبحرية، فخرج الشعب الجنوبي بـ "حراك سلمي" ليعبر عن سخطه ورفضه للاحتلال، متحملاً آلاف الشهداء والجرحى في نضال فاق الاحتلال القديم قسوةً، إذ تمادى الاحتلال الجديد في خبثه، وذلك بطمس ملامح الجنوب، ومحو تاريخه، وتشويه معالمه، وتهجين نسيجه الاجتماعي، واستبدال ثقافته برغبة جامحة وخطة ممنهجة في تغيير هويته الأصيلة.
ومع تهاوي نظام صنعاء وضعفه منذ قيام ما تسمى بثورة الشباب بداية العام 2011م، وما تبعته من تغييرات جذرية أفقدت السلطة قوتها، حيث أيدت قيادات لها ثقلها لتلك الثورة، وبدأ النظام يخسر الكثير والكثير من سلطته، حتى أُجبر على تسليم السلطة، ودخلت قوى أخرى خط الثورة مستغلة هذا الوضع المنفلت ، وقد استعدت جيداً وحضّرت كل الترتيبات اللازمة لهذا اليوم منذ فترة، وتحالفت مع النظام حتى تمكّنت من السيطرة على العاصمة ومراكز حساسة فيها والاستيلاء عبى الحكم في 21 سبتمبر 2014م، ودارت أحداث متعددة وسيناريوهات مختلفة، وكانت تلك الأعوام بمثابة بشائر للجنوب ينبغي استغلالها واستثمارها لاستعادة القرار الجنوبي، وذلك بترتيب أوراقه وتنظيم صفوفه، وكل هذا لم يتم، إلى أن حانت فرصة الخلاص الحقيقي..
ففي حرب 2015م، استطاع الجنوبيون، بعزيمة المجاهدين، تحقيق انتصارات عظيمة، وتحرير أرض الجنوب كاملة من دنس المحتل الذي مارس الغدر والمراوغة، لقد كانت حرب 2015م لحظة شم فيها الجنوبيون عطر الحرية، وتذوقوا طعم الكرامة، وتنفسوا شهيق الإباء وزفير العزة.
إلا أن السؤال الذي يظل يتردد في نفوس الجنوبيين هو:
هل تم استثمار هذا النصر العظيم والتضحيات الجسيمة التي قُدِّمت؟
أم أن الجنوب دخل في معمعة جديدة من المهانة وغربة الدار تحت مظلة أخرى من السيطرة، بعد أن أضاع القادة فرصة امتلاك الأرض والقرار؟
ومع كل تلك الأحداث والنكبات، ستبقى ثورة 14 أكتوبر 1963م رمزاً للنضال والتحرر، وستبقى محطاتها المؤلمة والمضيئة دروساً وعبراً، تُذِّكر الجنوبيين دائماً بأن الحرية والاستقلال قرار يحتاج إلى حنكة سياسية، وتنسيق محكم، والحفاظ على وحدة الصف بعيداً عن خلافات حماقات تُضِيع كل المكتسبات.
وكم مرَّت من أعوامٍ على ذكرى ثورة واستقلال وطننا الجنوبي، وشعبه لازال يناضل في سبيل استعادة حقه وهو على أرضه كالأجنبي، كيف لا، ومن يتلذذ بتعذيبه ويتحكَّم بقراراته أذناب محتل معتدي!
فمتى يأتي العام الذي نحتفل فيه بعيد أعيادنا الوطني، وقد امتلكنا فيه قرارنا بيدنا دون قيد من وصيّ؟
وكـل عـام وشعبنا الجنوبي
عزيزٌ حرٌّ شامخ الهامة أبِيّ.