ريام المرفدي ..
من اللحظة الأولى التي لامست فيها قدماي أرض الصين، وتحديدًا مدينة شنغهاي، شعرت أنني أمام عالمٍ لا يُشبه سواه. بلدٌ يختصر بين تفاصيله الحلم والواقع، حيث تتقاطع الحداثة مع الأصالة في مشهد مدهش من النظام، والجمال، والعبقرية التنظيمية.
لم تكن زيارتي مجرّد رحلة عمل ضمن وفد رسمي، بل كانت نافذة أطللتُ منها على تجربة إنسانية واقتصادية وثقافية تستحق أن تُروى.
في كل زاوية من هذه المدينة العملاقة حكاية، وفي كل ابتسامةٍ صينية رسالة تقول: "هكذا تُبنى الأوطان عندما يؤمن الناس بأن الانضباط والجهد هما الطريق إلى الازدهار".
ومن هنا، أبدأ سلسلة مقالاتي عن بلد العجائب، لأوثّق ما رأيته ولامسته عن قرب، وما ترك في داخلي من أثر سيبقى طويلًا في الذاكرة.
النظام الصامت في بلد مزدحم ..
في بلدٍ يسكنه أكثر من مليار نسمة، كنت أظن أن الزحام سيخنق الإحساس بالنظام، لكنّ الصين فاجأتني بالعكس تمامًا. ففي شوارع شنغهاي المزدحمة لا تسمع صخبًا، ولا ترى ارتباكًا. كل شيء يتحرك بانسيابية مدهشة، كأن المدينة تُدار بإيقاعٍ داخلي دقيق لا يحتاج إلى أوامر ولا إلى أصوات مرتفعة.
هناك، النظام لا يُفرض.. بل يُمارس.
هو سلوكٌ متجذّر في الوعي الجمعي، يُدرَّس بالصمت، ويُترجم بالالتزام. ترى الناس يلتزمون بالدور، يحترمون الوقت، وينجزون أعمالهم بدقة، دون رقابة ظاهرة أو ضجيج إداري.
في “بلد العجائب” — كما أحببت أن أسميها — أدركت أن التقدّم ليس في الأبراج التي تعانق السحاب، ولا في الطرق المتعددة الاتجاهات، بل في الإنسان الذي أدرك أن النظام قيمة وجود، وأن العمل مسؤولية قبل أن يكون واجبًا.
الصين تعلّمك أن الصمت لغة النظام، وأن النظام بدوره هو سرّ النهوض وسط الزحام. إنها التجربة التي تجعلك تتأمل كيف استطاعت هذه الأمة أن تُنظم كثرتها دون أن تفقد إنسانيتها، وأن تحوّل الزحام إلى لوحة منسجمة الألوان والخطى.