آخر تحديث :الأحد-26 أكتوبر 2025-12:15ص

في حب الصحراء: شريان الحياة

السبت - 25 أكتوبر 2025 - الساعة 08:23 ص
سمير عطا الله

بقلم: سمير عطا الله
- ارشيف الكاتب


قبل سنوات، كنت قد اهتممت بهذه الظاهرة، خاصة في أفريقيا. زرت ثلاث دول تواصل الصحراء الكبرى زحفها إليها. في مالي، نهر النيجر، شريان الحياة، يترسب ويضيق مجراه. في السنغال، اختفى 20 في المائة من الموارد النباتية منذ الثمانينات، كارثة حقيقية. في المغرب، دُمرت آلاف الهكتارات من الغابات لصالح الزراعة المكثفة، خصوصاً من أجل زراعة الكلمنتين الشهيرة. توسعت الصحراء نفسها، لأن جنوب منطقة الساحل أصبح أكثر جفافاً وتحول إلى صحراء.

فقدان الغابات الطبيعية الأساسية لتنوع الأرض البيولوجي، ليس ظاهرة استوائية فقط، بل يصيب المناطق الشمالية أيضاً. في كندا تم تدمير 177 ألف كيلومتر مربع من هذه الغابات لتلبية احتياجات الأسواق الأميركية والصينية من الخشب والمعادن.

ليست الصحارى محصورة في الجغرافيا الطبيعية فقط. فهناك صحارى داخلية، في الجغرافيا الحميمية. صحراء عاطفية، غياب للروابط مع الآخرين، بحث محموم عن توأم الروح، كما تشهد على ذلك وفرة موقع التعارف. الصحراء العاطفية لا تُعاش فقط وحيداً، بل أحياناً تكون أكثر قسوة داخل علاقة أو مجموعة.

وهناك أيضاً صحراء المرض، حيث يُترك الإنسان مع نفسه، خالياً من الطاقة، يتألم، وأحياناً لا يتعرف على نفسه. صحراء تولّدها أمراض التنكس العصبي التي تصيب الذاكرة ووظائف معرفية أخرى.

وهناك صحارى أخرى كثيرة. صحراء النساء الأفغانيات، المحاصرات أسيرات رجالهن ومجتمعهن، محرومات من أبسط حقوق الإنسان. وصحراء السجون. في الولايات المتحدة وفقاً لمجلة «Slate» هناك 120 ألف سجين يعيشون في عزلة تامة 22 ساعة يومياً، أحياناً لسنوات. كفيل هذا بأن يصيب المرء بالجنون. وهناك من يتحدثون اليوم عن صحراء التفكير، مع ظهور تكنولوجيا تفكر وتتحدث مكان البشر. الكاتب والفيلسوف إريك سادان سينشر هذا الخريف كتاباً بعنوان دال: «صحراء أنفسنا».

ما زلت على كثيبي، يلامسه المحيط. كيف لي أن أكون في مكان كهذا دون أن أفكر في سانت إكزوبيري، طيار الصحراء وكاتب الأمير الصغير الشهير؟ كتب في أرض البشر: «هنا، لم أعد أملك شيئاً في العالم. لم أكن سوى بشر تائه بين الرمل والنجوم، واع فقط بعذوبة التنفس».

هناك صحارى تمنحك النفس، توسّع الأفق، وتضخّمك من الداخل. يعود إلى ذهني ذلك العنوان الجميل للشاعر والدبلوماسي اللبناني صلاح ستيتية: انكسار الصحراء والرغبة. رغبة في شيء آخر، شيء تخبئه تلك الامتدادات الشاسعة.

كثيرون منّا يبحثون عن أراض تمتد فيها الرؤية حتى تتلاشى، عن فسحات واسعة نرتاح فيها – غالباً من أنفسنا. كثيرون ينادون الهواء الطلق، والصمت، والتأمل. الإقبال على الجزر، الجبال، الغابات، البحيرات، البحار، في تزايد مستمر. السعي نحو أماكن مفقودة، ريشة نورس، أو غصن صغير بين الأسنان، يجذبنا بقوة.

من خيامنا، أو خيام اليورت، أو أكواخنا، نُحدّق في الفجر، منبهرين. نرغب في قطف الشفق القطبي في يناير، وتوت الحقول البري في يوليو. أقدامنا في القصب، أو الثلج، أو أوراق الخريف الذابلة، نركض تحت الغيوم، نبحث... نبحث، كلّ منا عن صحرائه، حيث – لبضع ثوان فقط – يسود السكون.