آخر تحديث :الأحد-26 أكتوبر 2025-12:15ص

ضياع السلام: خسارةٌ يتجرّعها الجميع

السبت - 25 أكتوبر 2025 - الساعة 10:35 ص
عبدالناصر صالح ثابت

بقلم: عبدالناصر صالح ثابت
- ارشيف الكاتب


م. عبدالناصر صالح ثابت


في كل صفحة من صفحات تاريخ اليمن الحديث، تتجسّد حقيقة مؤلمة: سلسلة لا تنتهي من الفرص الثمينة للسلام أُهدرت وتجاهلها الجميع.

كانت تلك الفرص كفيلة بتجنيب البلاد عقودًا من الدماء والانقسام والصراعات الممتدة. وبعد كل هذه التضحيات والتجارب المريرة، يظل

التساؤل الجوهري مطروحًا: متى سندرك أن السلام هو المكسب الوحيد الذي لا يتبعه ندم؟

إن السلام المهدر هو القاسم المشترك في ندم جميع الأطراف، سواء رفعوا راية النصر أو انحنوا أمام الهزيمة. فمتى ما غابت العقلانية،

وطغت اندفاعات القوة والعنف على الحكمة، كان الندم حتميًا. إن الحروب لا تخلق مجدًا خالِدًا، بل تترك ندوبًا عميقة في النفوس، وتاريخًا

مثقلاً بأوزار المآسي.

هذا المبدأ ليس حكراً على النزاعات الكبرى، بل يبدأ من أصغر دوائر الخلاف: من الأفراد والجماعات، مرورًا بالأحزاب والقبائل،

وصولًا إلى النزاعات التي تمزق الأوطان. العنف دورة مغلقة لا تنتج سوى المزيد من العنف، أما السلام فهو المفتاح الذي يفتح الأبواب

أمام العقل والحياة والبناء.

يشهد التاريخ اليمني، شماله وجنوبه، على صحة هذه الرؤية.

في الجنوب، تكررت دورات الصراع بعد كل استقرار مؤقت؛ بدايةً من فترة ما بعد الاستقلال وتحديدًا عام 1969، ثم تكرار الأخطاء في

1978، وصولًا إلى كارثة 13 يناير 1986 التي كانت بمثابة طي لصفحة المصالحة، فكانت الخسارة شاملة.

أما في الشمال، فقد ضاعت فرص تأسيس الدولة الحديثة باغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، وتحولت الخلافات السياسية والقبلية إلى نزاعات

مستدامة، مما بدد حلم بناء دولة مدنية عصرية. وتوالت الخسائر في حروب 1972 و1978 بين البلدين، وكأن التاريخ يعيد نفسه دون أن

يُعثر على طالبٍ للدرس.

ثم جاءت الوحدة في أبهى صورها التاريخية، لكنها لم تلبث أن تحولت إلى صراع جديد، انتهى بحرب 1994 التي لم تحمل معها منتصرًا

حقيقيًا. فالمهزوم فقد أرضه وحقوقه، بينما المنتصر خسر استقراره ورهن مستقبله، وبقي الوطن بأكمله مثقلًا بعواقب هذه الحرب.

وهكذا استمرت الدائرة المفرغة خلال السنوات الأخيرة مع تنوع أشكال الصراع، ومع كل مرة تُضيع فيها فرصة للسلام، أصبح من

الصعب التمييز بين الفرص الضائعة وتلك التي لم تتوفر أصلاً، وترك هذا الواقع الوطن مثقلاً بالفوضى، والمجتمع مشردًا بين الانقسامات

والمعاناة المستمرة.

لقد أثبتت تجارب الأمم من حولنا أن الشعوب التي آثرت طريق السلام هي التي نجحت في بناء مؤسساتها ونهضت باقتصاداتها، بينما

الدول التي استسلمت لمنطق السلاح لم تحصد سوى التمزق والخراب.

إن ما يحتاجه اليمن اليوم يتجاوز مجرد اتفاق هش أو هدنة مؤقتة، بل يحتاج إلى حلول واقعية مبنية على إدراك المصالح المشتركة. ولعل

سنوات الألم والخسارة التي مرّت بالبلاد كفيلة بتحقيق "سلام الندم"، سلام يضمّد الجراح العميقة ويوجه الطاقات والإمكانات المتبقية نحو

مصلحة الجميع.

حين يُدرك أن السلام ليس لحظة استسلام، بل لحظة وعي ومكسب، ستُكسر دائرة الندم، ويُفتح بابٌ جديد لتاريخ يُكتب بمداد العقل لا

برصاص الغضب. لقد آن الأوان لأن يتعلم اليمنيون من الماضي، وأن يصنعوا السلام قبل أن ينهار ما تبقى.