م. عبدالناصر صالح ثابت
رغم القفزة الهائلة التي حققها التحول الرقمي في حياة البشرية، بدءًا من الخدمات الذكية وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، إلا
أن هذا التقدم لا يخلو من وجه خفي مليء بالمخاطر. فالعالم اليوم لم يعد مهددًا بالحروب التقليدية أو الجرائم الميدانية فقط، بل
أصبح يعيش صراعًا جديدًا داخل الفضاء الإلكتروني، حيث لا تُسمع الأصوات ولا تُرى الأسلحة، لكن الخسائر قد تكون أشد
وقعًا وأكثر تأثيرًا. وتتخذ هذه التهديدات أشكالًا عدة: الجريمة السيبرانية التي تستهدف الأموال والبيانات، الإرهاب السيبراني
الذي يسعى لبث الخوف وزعزعة الاستقرار النفسي والسياسي، وصولًا إلى الحروب السيبرانية بين الدول التي تعتمد على
الاختراق والتجسس لتعطيل البنية التحتية الحيوية وتحقيق أهداف استراتيجية.
الجريمة السيبرانية
أصبحت الجريمة السيبرانية أحد أسرع أشكال الجرائم نموًا على مستوى العالم. يتحول المخترق إلى لصّ غير مرئي يجلس
خلف الشاشة، يخترق الحواسيب والمصارف ويسرق الأموال أو البيانات دون أن يترك أثرًا ماديًا. تشمل هذه التهديدات
رسائل البريد الإلكتروني المزيفة، الروابط الوهمية، أو برامج الفدية التي تقوم بتشفير الملفات وتطالب بفدية مالية لفكها. سواء
كان الضحية فردًا بسيطًا أو مؤسسة عملاقة، فإن النتيجة واحدة: خسائر مالية، سمعة مهددة، وثقة تتلاشى.
الإرهاب السيبراني
يتجاوز الإرهاب السيبراني حدود المال ليصل إلى بثّ الخوف والاضطراب النفسي والاجتماعي. لا يسعى المهاجم هنا إلى
الربح، بل إلى التأثير وزعزعة الأمن وإثارة الرأي العام. تُستخدم المنصات الرقمية لتجنيد الأتباع، ونشر رسائل التطرف،
واختراق المواقع الحكومية أو الإعلامية لبث رسائل تهديد. وقد يمتد الأمر لتعطيل شبكات حيوية كالمستشفيات والمطارات،
لتتحول الرسالة من مجرد تهديد إلى واقع ملموس يشعر به الجميع.
الحروب السيبرانية بين الدول
على مستوى أكثر تعقيدًا، تتحرك الحروب السيبرانية في صمت تام. تتنافس الحكومات على اختراق أنظمة بعضها، وسرقة
معلومات حساسة، أو زرع برمجيات خبيثة في البنية التحتية تنتظر لحظة التفعيل. لا صواريخ تُطلق، ولا جنود يُرسلون إلى
الجبهات، لكن النتائج قد تشل مدينة كاملة أو تعطل اقتصاد دولة. مثال واضح على ذلك هو هجوم "Stuxnet" على المنشآت
النووية الإيرانية، الذي أبرز قوة وتأثير الهجمات السيبرانية على البنية التحتية الحيوية.
الوعي والمسؤولية
الخطر لا يقتصر على الحكومات والمؤسسات الكبرى؛ إذ يبدأ من أصغر ثغرة في المنزل — كلمة مرور ضعيفة أو موظف
يضغط على رابط مجهول. مع تزايد استخدام التقنيات الحديثة، يصبح الوعي الأمني ضرورة ملحّة ومسؤولية مشتركة بين
الفرد والمؤسسة والحكومات.
ورغم السباق المحموم نحو التطور والتقنيات المتقدمة، تقتضي الحكمة التفكير الجاد في بدائل احتياطية. لا ينبغي إهمال
التدريب على الوسائل التقليدية والحلول اليدوية، لأن الاعتماد الكامل على التكنولوجيا دون خطط بديلة يضاعف الهشاشة أمام
انهيار مفاجئ للأنظمة أو كارثة رقمية واسعة النطاق.
الخلاصة
تطرح هذه التحديات سؤالًا هامًا: يعيش العالم في زمن يمكن أن تتعطل فيه حياة كاملة بسبب فيروس لا يُرى، وتندلع فيه
نزاعات تُحسم دون طلقة واحدة. فهل سيكتفى المجتمع بدور المتفرجين والضحايا، أم سيبرز جيل يتقن حماية مستقبله الرقمي
كما صنعه؟