آخر تحديث :الإثنين-24 نوفمبر 2025-02:56م

الأحباش مواطنون بين حقب التأريخ

الجمعة - 07 نوفمبر 2025 - الساعة 09:12 ص
عدنان زين خواجه

بقلم: عدنان زين خواجه
- ارشيف الكاتب


منذ فجر التاريخ، ظلّت الجغرافيا اليمنية ساحةً مفتوحة لتصارع الحضارات وتبادل النفوذ، حتى باتت الأرض مرآةً لحقبٍ متعاقبة من الاحتلال والتوطين والسيطرة السياسية. فالتاريخ اليمني، كما يُروى في الموروث الشعبي والكتابات القديمة، يؤكد أنّ التبابعة حينما غزوا مناطق الجنوب اليمني في العصور القديمة، اعتبر اليمنيون ذلك الغزو امتداداً للسيادة الوطنية، لا غزواً أجنبياً، لأنّ الحكم كان من سلالة يمنية سبئية الأصل، ترى في كل أرضٍ تخضع لسلطانها ملكاً تاريخياً لها، وإن تبدّلت عليها الأزمان.

لكنّ هذا المنطق التاريخي الذي اعتمده اليمنيون في تأصيل ملكيتهم للأرض، عاد اليوم ليُقرأ بعيونٍ مغايرة، خصوصاً عند تناول ملف الهجرات الحبشية الحديثة إلى اليمن. فالهجرة من ضفاف القرن الإفريقي إلى السواحل اليمنية ليست وليدة اليوم، بل تمتد جذورها إلى قرونٍ سحيقة، حينما كانت جيوش الأحباش بقيادة أبرهة الحبشي تحكم اليمن كاملة، قبل عام الفيل، في مرحلةٍ حاول فيها أبرهة توسيع نفوذه الديني والسياسي ببناء “القُلّيس” في صنعاء، ليجعل منها مركزاً دينياً بديلاً للكعبة المشرفة في مكة.

وإذا كان اليمنيون يرون أن التبابعة حين بسطوا سلطانهم على الجنوب جعلوا منه امتداداً لسلطة سبأ وذي ريدان، فإنّ بعض المؤرخين يرون أن في مخيلة الأحباش اليوم ظلالاً من ذلك الماضي الإمبراطوري، الذي جعلهم ينظرون إلى اليمن بوصفها جزءاً من إرثٍ حضاريٍّ سُلب منهم بفعل تعاقب القوى. فربما تسكن في الذاكرة الجمعية للحبشة أحلامٌ قديمة باستعادة “أرضٍ” كانت يوماً خاضعة لعرش أكسوم، تماماً كما يعتنق بعض اليمنيين فكرة “الحق التاريخي” في الجنوب باعتباره امتداداً طبيعياً لسلطة الشمال القديمة.

إنّ هذا التشابه في الذهنية التاريخية بين من يبرر الاحتلال القديم بقدسية الإرث، ومن يسعى اليوم لتثبيت الوجود بذات الحجة، يكشف عن جدليةٍ خطيرةٍ في فهم مفهوم “الملكية الوطنية للأرض”. فحين تتحول الأرض إلى رمزٍ للتاريخ لا للوطن، يصبح الحق فيها مرهوناً بمن كتب عنها أولاً لا بمن يعيش عليها اليوم.

في نهاية المطاف، يمكن القول إنّ الصراع على الأرض ليس مجرد نزاعٍ جغرافي، بل هو انعكاسٌ لصراعٍ أعمق بين الماضي والحاضر، بين من يرى أن التاريخ يمنحه الشرعية، ومن يعتقد أن الوجود والهوية هما أساس الشرعية. وما بين هذا وذاك، تبقى اليمن أرضاً تختزن ذاكرة الأمم، لكنها في كل الأحوال ترفض أن تكون مجرد فصلٍ من فصول الأطماع القديمة أو الحديثة.

إنّ قراءة التاريخ بعين الإنصاف تفرض علينا أن نفرّق بين الحق في الجغرافيا والحق في الحياة. فالتاريخ لا يُورّث الأرض، بل يسرد حكايتها، ومن الخطأ أن نُعيد إنتاج صراعات الماضي بذريعة أنه “حقٌّ تاريخي”. فالأوطان تُبنى بالانتماء لا بالاحتلال، وبالعيش المشترك لا بالتاريخ الممزّق.