آخر تحديث :الإثنين-08 ديسمبر 2025-12:30ص

من القبيلة إلى الدولة: اختبار الانتقالي الأصعب

السبت - 08 نوفمبر 2025 - الساعة 10:29 م
خالد باعزب

بقلم: خالد باعزب
- ارشيف الكاتب


تعيش الساحة الجنوبية، واليمن عموماً، صراعاً فكرياً بين منطقين متناقضين: منطق القبيلة الذي يقوم على الولاء للعشيرة، ومنطق الدولة الذي يقوم على الولاء للفكرة والمؤسسة. هذا الصراع لا يعبّر فقط عن أزمة سياسية، بل عن أزمة وعي ما زالت تربط الإنسان العربي بمنظومة العصبية القديمة التي وصفها ابن خلدون قبل قرون.

يرى ابن خلدون أن العصبية القبلية هي الأساس الذي تنشأ به الدول وتسقط به. فهي في بدايات التاريخ كانت ضرورة لحماية الإنسان وتنظيم الجماعة، لكنها تتحول لاحقاً إلى عائق حضاري إذا استمرت بعد قيام الدولة، لأن منطق القبيلة يقوم على الولاء للعشيرة لا للوطن، وعند تعارض المصلحتين يختار ابن القبيلة عشيرته، إذ يراها وطنه الحقيقي.


انتقد عالم الاجتماع العراقي علي الوردي هذه البنية القبلية وعدّها من بقايا المجتمع البدوي التي تعيق التحول نحو المدنية. فالعقل القبلي يقوم على العصبية والانتماء الضيق، بينما الدولة الحديثة تقوم على المواطنة والولاء للفكرة. قال الوردي إن “المجتمع العربي لم يتحول بعد من البداوة إلى الحضارة”، إذ ما زال يعيش صراعاً بين قيم القبيلة وقيم المدينة. وضرب مثالاً بدافع المحاكاة داخل العشائر، حيث يسلك أفرادها مساراً واحداً في التخصص أو الوظيفة، مما يعكس ضيق الأفق وتقييد التنوع الذي هو سمة الحياة المدنية.


أما الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي فقد رأى أن الأمة تفقد روحها حين تتحول العصبية القبلية إلى أساس للتفاضل الاجتماعي، لأنها تعيد المجتمع إلى مرحلة ما قبل الحضارة. فـ"القبيلة"، كما يقول، تُغذي روابط النسب لا روابط الفكرة، وتمنع قيام مجتمع قائم على الوعي والرسالة. لذلك دعا إلى الانتقال من “مجتمع الدم” إلى “مجتمع الفكرة”، لأن الأفكار هي التي تصنع الحضارة لا الأنساب.

وقد قسم مالك بن نبي الوجود الإنساني إلى ثلاثة عوالم: عالم الأشخاص، وعالم الأشياء، وعالم الأفكار، معتبراً أن عالم الأفكار هو الأثبت والأطول بقاءً. فعندما يُختزل الوطن في شخص، يصبح مصير الوطن معلقاً بحياته أو بوجوده السياسي، ولهذا سقطت دول عديدة بسقوط حكامها الذين جعلوا الوطن مرادفاً لذواتهم.


ينطبق هذا الواقع اليوم على الجنوب واليمن عموماً، حيث تُختزل قضايا الوطن في أشخاص أو زعامات، وتُدار الصراعات بعقلية قبلية تتصادم مع منطق الدولة. ومن هنا تظهر مقولات مثل “قائد بحجم وطن” التي تعبّر عن اختزال الوطن في الفرد لا في المؤسسة.

إن منطق القبيلة يرى العالم بحدود العشيرة، بينما منطق الدولة ينظر إليه بعين المصلحة العامة. في الوعي القبلي تتقدم كرامة العشيرة على كرامة الدولة، أما في الدولة المدنية فكرامة الفرد جزء من كرامة الوطن. ولن تُبنى دولة في الجنوب أو في أي مكان ما دام الوعي الجمعي أسير العصبية. فبقدر ما ينتقل الإنسان من الولاء للقبيلة إلى الولاء للمؤسسة، يكون قد خطا أولى خطواته نحو المدنية.