في خضم التحولات العاصفة التي تمر بها الساحة الجنوبية، تتكشف ملامح حرب غير معلنة، تتجاوز حدود السياسة والميدان، لتطال الوعي الجمعي ذاته. إنها حرب وجودية تستهدف هوية الجنوب وذاكرته ومسار قضيته الوطنية، عبر أدوات ناعمة تعمل بصمت ولكنها تُحدث أثرًا عميقًا في بنية المجتمع.
لقد أصبح تغييب الوعي الجنوبي أخطر أشكال الصراع في هذه المرحلة، حيث لم تعد المواجهة تدور فقط حول الأرض أو القرار السياسي، بل حول العقل الجنوبي الذي يُراد له أن يعيش في حالة غيبوبة فكرية، تُبعده عن إدراك مصالحه العليا، وتغرقه في تفاصيل وصراعات جانبية تُنهكه وتشتته.
تتعدد أدوات هذا التغييب بين إعلام موجه يخلط بين التنوير والتضليل، وخطاب سياسي يغلب عليه التبرير والمصالح الضيقة، ومشاريع إقليمية تحاول إعادة تشكيل وعي الناس وفق رؤيتها الخاصة لمستقبل الجنوب. فبدل أن يُدفع المواطن الجنوبي نحو استعادة قراره الحر، يجري سحبه إلى مربعات التبعية والانقسام، ليصبح جزءًا من لعبة أكبر تُدار من الخارج.
إن أخطر ما في هذه الحرب أنها تُلبس الباطل ثوب الحق، وتُقدّم الاستسلام على أنه واقعية، والتبعية على أنها تحالف، وتُصوّر الانقسام على أنه تعددية. وهكذا يُعاد تعريف المفاهيم الوطنية بطريقة تُضعف المناعة الفكرية للمجتمع وتفتح الباب أمام طمس الهوية الجنوبية الأصيلة التي تشكلت عبر عقود من النضال والمعاناة.
نحن اليوم أمام تحدٍّ وجودي حقيقي، لا يمكن مواجهته إلا باستعادة الوعي، وبناء خطاب جنوبي متزن، نابع من المصلحة الوطنية العليا، لا من مصالح الأفراد أو القوى المتنافسة. فالوعي هو خط الدفاع الأول والأخير، وإذا ما تم اختراقه، فلن تنفعنا كل الانتصارات العسكرية أو السياسية.
إن الجنوب بحاجة إلى نهضة فكرية تعيد الاعتبار للوعي الجمعي، وتُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن وقضيته، بين القيادة والشعب، على أسس الشفافية والمصلحة المشتركة. كما أن النخب السياسية والإعلامية مطالبة بأن تتحمل مسؤوليتها التاريخية، وأن تدرك أن التلاعب بعقول الناس أخطر من أي عدوان خارجي.
ختامًا، الحرب على الجنوب لم تعد تُخاض بالمدافع وحدها، بل بالعقول والنصوص والشاشات. وإذا لم نحسن الدفاع عن وعينا، فسنستيقظ ذات يوم على جنوبٍ بلا ملامح، وبلا ذاكرة، وبلا هوية.