قد يظنّ الكثيرون أن التهافت على منصب القيادة هو الهدف الأسمى للنجاح، وأن الابتعاد عنه دليل على قصور في الطموح أو تراجع عن المسؤولية. غير أن الحقيقة الأعمق تكمن في أن قرار النأي عن تولي زمام الأمور، حتى مع توافر الكفاءة التامة، ليس بالضرورة ضعفًا أو خوفًا من التبعات، بل هو في جوهره انعكاس لوعيٍ حادّ بأخلاقيات الدور ومتطلباته الثقيلة.
فالقيادة ـ أيًّا كان شكلها ـ سواء أكانت إدارة فريق صغير، أو الإشراف على مكتب، أو حتى تسيير عمل بسيط، ليست مجرد كرسي يرفع صاحبه، ولا وشاح يُضفي عليه الهيبة والجاه؛ بل هي في الأصل عقدٌ ضمنيّ يتضمن "التزاماتٍ لزومية" لا يجوز التنازل عنها قيد أنملة.
هذه الالتزامات تتمثل في الإنصاف المطلق، والاستعداد للتضحية بالوقت والراحة الشخصية، وتحمل وزر القرارات الصعبة التي قد تجلب النقد لكنها تخدم المصلحة العليا، مع المحافظة على النزاهة والحيادية تحت كل الظروف.
إن من يرفض تولّي هذا المنصب لا يخشى العمل أو الإشراف بحد ذاته، بل يخشى أن يعجز عن الوفاء الكامل وغير المشروط بتلك "الالتزامات اللزومية" التي تفرضها الأمانة. فهو يدرك بفطرته أن التهاون في أيٍّ منها يعني فشلًا حقيقيًّا لا يغطيه بريق المنصب. وهذا الوعي بقدسية المسؤولية هو ما يجعله يمتنع عنها، على النقيض تمامًا ممّن يرى في القيادة مجرد وسيلة "للتعالي والتفاخر بالدور"، وهو الفهم السطحي الذي يمثل الانعكاس الأكثر سوءًا لمعنى القيادة الحقيقي، إذ يحوّل الغاية النبيلة من الخدمة إلى هدفٍ شخصي للوجاهة الزائفة.