آخر تحديث :الأحد-07 ديسمبر 2025-01:34م

الإعلام ومعركة الوعي المغيّبة..

الجمعة - 21 نوفمبر 2025 - الساعة 10:21 ص
محمد العنبري

بقلم: محمد العنبري
- ارشيف الكاتب



في زمن تتكاثر فيه المنابر وتتنوع فيه المنصات يصبح للإعلام دور حاسم في تشكيل وعي الأفراد والجماعات وصوغ اتجاهات الرأي العام وترسيم حدود النقاش الوطني غير أن هذا الدور يبدو اليوم وكأنه يبتعد عن مساره الطبيعي ويغادر مهمته الأصيلة التي وُجد من أجلها معركة التحرير وصناعة الوعي وممارسة النقد البناء الذي يفتح الأبواب ولا يغلقها ويصلح ولا يهدم ويهدي ولا يضلّ.


لقد أصبح الخطاب الإعلامي عند البعض ساحة صراع ضيقة تستخدم فيها الكلمة كما تستخدم العصا في الطرقات بلا رقيب ولا وازع وتحولت رسالة الإعلام من منصة للنصح والإرشاد والتقويم إلى فضاء مشحون بالعداء الشخصي والتجريح والشتائم وكأن صوت العقل قد أُطفئ عمدا وحلّ مكانه ضجيج لا ينتمي إلى قيم الإعلام ولا إلى أخلاق المجتمع.


إن مهمة الإعلام ليست التشهير بالأفراد ولا النيل من الكيانات الوطنية والاجتماعية والأحزاب السياسية التي مهما اختلفنا معها تبقى جزءا من بنية البلد لها قيمتها واعتبارها ومن العدل أن تنقد بميزان يستدعي الوقار والموضوعية والحرص على المصلحة العامة. النقد مسؤولية لا سلاح وهو فعل إصلاح قبل أن يكون فعل مواجهة وفن يتطلب لياقة فكرية وأخلاقية قبل أن يصبح مقالة أو منشورا.


ما يحدث اليوم هو خلط مؤسف بين النقد وبين التهجم بين التصويب وبين التشهير الكلمة التي خلقت لتبني باتت تستخدم لدى البعض لتفريغ الأحقاد وبث الضغائن،حتى صار الإعلام منصة لمعركة لم يطلبها أحد وخندقا تتوزع داخله الولاءات الصغيرة والمصالح الضيقة وبدل أن يكون الإعلام ضوءا يكشف الأخطاء ليتم إصلاحها أصبح دخانا أسود يحجب الرؤية ويربك الوعي ويصيب البصر والبصيرة معًا.


إن النقد البناء يقوم على تشخيص السلوك وتحليل المشكلة واقتراح الحلول لا على تحطيم الأشخاص وجرحهم في كرامتهم فلا أحد يستفيد من الشتائم إلا من يتربص بالمجتمعات الممزقة إن الإسفاف الإعلامي لا يخلق تغييرا بل يخلق قبحا يجتاح الذوق العام ويهدم الثقة بين الأفراد والمؤسسات ويزرع الشك والريبة في كل شيء ويشعل معارك صغيرة تستهلك الروح والطاقة بدلاً من أن تصنع وعيا أو تقدما.


وليس خافيا أن هذا النوع من الخطاب هو أخطر أنواع الهدم لأنه يضرب في عمق المجتمع ويضعف مناعته ويجعل أبناءه في حالة خصومة دائمة مع بعضهم البعض وهنا يكمن مكمن الخطر حين يتحول الإعلام إلى أداة لبناء الخنادق بدلاً من أن يكون جسرا يعبر به الناس نحو الحقيقة حين يصبح منصة لتصفية الحسابات بدلاً من أن يكون بوابة لحلول تنقذ البلد فإن العدو يحصل على خدمات مجانية دون أن يبذل أي جهد.


الإعلام الحقيقي هو الذي يحمل هم الوطن ويقيس الكلمة بميزان الذهب قبل نشرها ويستشعر أثرها قبل أن يطلقها ويعرف أن الحروف يمكن أن تكون جدارا يحمي أو مطرقة تهدم الإعلام الحقيقي يدرك أن المعركة ليست مع الأشخاص بل مع الأخطاء وأن الهدف ليس إذلال الخصم بل تصويب المسار الإعلام الذي نحتاجه هو إعلام يحترم العقل ويرفع الذوق العام ويسهم في توحيد الصف لا تمزيقه ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.


إن إعادة الاعتبار للإعلام تبدأ من عودة أخلاقه ومن التزامه بحدود المهنة النبيلة التي جعلت من الكلمة شرفًا لا وسيلة للابتزاز تبدأ من الإيمان بأن النقد مسؤولية وطنية وأن الرأي المخلص هو الذي يشخص الخلل دون تجريح ويقترح الحل دون تشهير ويحترم المختلف دون أن يقدس الخطأ تبدأ من وعي المجتمع بأن الانزلاق إلى المعارك الصغيرة لا يسقط خصما بل يسقط بلدا كاملًا.


لقد آن الأوان لأن يستعيد الإعلام دوره في البناء لا الهدم… في التهدئة لا التأجيج… في الإصلاح لا الإفساد آن له أن يعود من ضوضاء الشتائم إلى لغة العقل ومن خنادق الفرقة إلى ساحة المسؤولية فالإعلام الذي يشعل النار ليس إعلاما بل عود ثقاب في يد من لا يعرف قيمة الوطن أما الإعلام الذي يبني فهو الذي يطفئ الحرائق ويحمي الوعي ويصنع الغد.

محمد العنبري