في الثلاثين من نوفمبر قبل ثمانيةٍ وخمسين عاماً، ارتفع علمُ الجنوب حرّاً شامخاً فوق سماء عدن، معلناً نهاية استعمارٍ بريطاني جثم على صدر الجنوب 129 عاماً. يومها لم يكن النصر حدثاً عابراً في تاريخ المنطقة، بل كان ثمرة نضال أجيالٍ حملت أرواحها على الأكف، وآمنت أن الأرض قد تُسلب، لكن الإرادة لا تُهزم.
كان الاستقلال الأول ميلاداً لكرامة شعبٍ كتب تاريخه بدمه، وأعلن للعالم أن الحرية ليست منحة من أحد، بل حقٌ تُنتزَع انتزاعاً.
من استعمارٍ واحد إلى واقعٍ أشد تعقيداً
ويا للمفارقة المرّة…
إذا كان الجنوب قد تحرر من استعمارٍ واحد، فإن الواقع اليوم – في نظر الكثير من أبناء الجنوب – يبدو أشدّ قسوةً وتعقيداً:
مشهد تتداخل فيه القوى، وتتزاحم المصالح، وكأن أربعة احتلالات جديدة التحقت بذاك الاحتلال القديم، ليتحوّل الوطن إلى ساحة تنازع، والشعب إلى رقمٍ في معادلات الآخرين.
تعددت الأسماء…
وتغيرت الوجوه…
لكن الألم واحد:
ظلم، تهميش، بطالة، فقر، قطع رواتب، حصار لقمة العيش، وسياسات تُشعر المواطن أنه غريب في أرضه، ومجرد شاهد على وطنٍ يتآكل كل يوم.
الشعب الجنوبي… بين ذاكرة المجد وواقع المعاناة
في الجنوب اليوم شعبٌ صابر، يحمل ذاكرة نوفمبر في قلبه، لكنه يواجه واقعا لا يشبه أحلام أبطال الاستقلال:
رواتب مقطوعة منذ شهور وربما سنوات.
خدمات منهارة لا تليق بإنسان ولا بوطن.
فقرٌ يضرب البيوت حتى صار الخبز أمنية.
سياسة تجويع تتوسد وجع الناس وتصنع منهم ضحايا بلا صوت.
قهرٌ يومي يُمارس على المواطن بلا تفسير ولا نهاية.
ومع كل هذا…
ما زال الشعب واقفاً لم ينحنِ، تماماً كما كان أجداده يوم وقفوا أمام الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وقالوا لها: ارحلي.
ذكرى الاستقلال… ليست احتفالاً بل مسؤولية
يوم الثلاثين من نوفمبر ليس مجرد مناسبة تُرفع فيها الأعلام وتنشر فيها الصور، بل هو محكمة تاريخية نسأل فيها أنفسنا:
هل هذا ما أراده صناع الاستقلال؟
هل يليق بشعبٍ حرّر أرضه أن يعيش مظلوماً في وطنه؟
إن ذكرى الاستقلال تُلزم الجميع – سلطةً ومجتمعاً ونخبة – بإعادة النظر في الواقع، وبناء مشروع وطني يعيد للجنوب كرامته وحقوقه، ويضمن للمواطن حياة تحفظ إنسانيته، لا أن تجعله رهينة الوعود والتجويع.
نوفمبر… روحٌ تعود لتقول
إن روح نوفمبر تعود كل عام لتهمس في آذان الأجيال:
الحرية لا تُستعطى…
هوية الوطن لا تُشترى…
كرامة الشعب لا تُقايَض…
ومن قاوم استعماراً عظيماً بالأمس قادرٌ على مواجهة الظلم مهما تعددت وجوهه اليوم.
خاتمة
نحن لا نحتفل بذكرى استقلالٍ مضى…
بل نُحْيي جذوة نضالٍ لم ينطفئ.
نوفمبر ليس تاريخاً على ورق، بل منارةٌ تُذكّر الجميع أن الجنوب يستحق دولة عادلة، وعيشاً كريماً، ومستقبلاً يليق بتضحيات شعبه.
وفي ذكرى الاستقلال الـ58…
يظل السؤال قائماً:
هل يعانق الجنوب فجر استقلالٍ جديد يرفع عن أبنائه ما أثقل ظهورهم من ظلمٍ وقهرٍ وفقر؟
أم يبقى عالقاً بين ذاكرة مجدٍ ماضٍ وواقعٍ ينتظر من يغيّر مساره؟
نوفمبر يقول: الحرية تُصنع… ولا تُهدى.