في زمنٍ كثرت فيه الأصوات وتعددت فيه الرايات، أصبح من السهل أن يضيع الإنسان بين ضجيج المصفقين، وهتاف المطبلين، وركام التابعين بلا وعي ولا بصيرة. ومن هنا، أكتب هذا المقال لأحذر نفسي أولاً، ومن أحب ثانياً، من داء خطير، ومرض عضال، اسمه: *الإمَّعة*.
*ما معنى الإمَّعة؟*
الإمَّعة في اللغة هو الذي لا رأي له، يتابع كل أحد على رأيه، ويقول: "أنا مع الناس، إن أحسنوا أحسنت، وإن أساؤوا أسأت". هو شخص خفيف العقل، ضعيف الشخصية، لا يملك استقلالاً في التفكير، ولا شجاعة في الموقف، ولا بصيرة في التمييز بين الحق والباطل.
وفي مفهومنا المعاصر، الإمَّعة هو *المطبل* ، ذاك الذي يصفق ويهتف ويؤيد، لا لأنه يرى الحق فيما يُقال أو يُفعل، بل لأنه اعتاد أن يكون تابعاً، يُقاد كما تُقاد الدواب، ويُساق كما يُساق القطيع، لا يسأل، لا يعترض، لا يفكر، بل يردد ما يُملى عليه، ويصفق لكل من يعلو صوته، مهما كان باطلاً أو ظالماً.
*التحذير النبوي من الإمَّعة*
لقد حذرنا النبي ﷺ من هذا الداء منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، فقال في الحديث الشريف:
*"لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا."*
(رواه الترمذي وقال: حديث حسن)
تأمل هذا الحديث العظيم، كيف ينهى النبي ﷺ عن التقليد الأعمى، والانقياد وراء الناس دون تمييز، ويأمرنا بأن نُوطن أنفسنا على الاستقامة، وأن نكون أهل مبدأ، لا أهل مصلحة، أهل حق، لا أهل هوى.
*صفات الإمَّعة (المطبل)*
1 - *خفة العقل*:
لا يزن الأمور بميزان الحكمة، بل يتبع من يراه قوياً أو مشهوراً أو ذا سلطة.
2 - *الانقياد الأعمى*:
لا يسأل عن الدليل، ولا يبحث عن الحقيقة، بل يكتفي بأن "فلان قال".
3 - *الازدواجية*:
يمدح اليوم من كان يذمه بالأمس، ويذم غداً من كان يصفق له اليوم، بحسب الموجة.
4 - *الجبن عن قول الحق*:
يخشى أن يخالف التيار، أو أن يُتهم بالخروج عن الصف، فيصمت أو يساير.
5 - *الافتقار إلى المبادئ*:
لا يملك قاعدة ثابتة، ولا رؤية واضحة، بل يتلون بحسب المصالح.
*لماذا يجب أن نحذر من الإمَّعة؟*
لأن الإمَّعة خطر على نفسه وعلى مجتمعه. فهو لا يميز بين العدل والظلم، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين المصلح والمفسد. وإذا كثر الإمَّعات في أمة، ضاعت فيها القيم، وساد فيها النفاق، وارتفعت فيها الأصوات الباطلة، وسُحقت فيها الأصوات الصادقة.
إن الإمَّعة لا يبني وطناً، ولا ينهض بأمة، ولا يحفظ ديناً، ولا ينصر حقاً تجده يصفق ويطبل. بل هو أداة في يد من يملك الصوت الأعلى، أو المال الأكثر، أو النفوذ الأوسع.
*كن صاحب رأي، لا تابعاً*
ليس المطلوب أن تخالف الناس لمجرد المخالفة، ولكن أن تكون صاحب بصيرة، تفكر، تتأمل، تسأل، تبحث، ثم تتخذ موقفك بناءً على قناعة، لا على تقليد.
كن ممن إذا رأى الحق تبعه، ولو خالف الناس، وإذا رأى الباطل أنكره، ولو سكت الناس. كن ممن يقول: "أنا مع الحق حيث كان، ومع العدل حيث وجد، لا أصفق للباطل، ولا أساير الظلم، ولو فعل ذلك الجميع".
*كلمة أخيرة*
في زمن كثرت فيه الأصوات، وقل فيه الصدق، وارتفعت فيه رايات التطبيل، احذر أن تكون إمَّعة. لا تكن مجرد صدى، بل كن صوتاً. لا تكن تابعاً، بل كن قائداً لنفسك. لا تكن مطبلاً، بل كن مصلحاً بين الناس.
واعلم أن الله سيسألك عن رأيك، وموقفك، وصمتك، وهتافك، فاختر لنفسك ما تحب أن تلقى الله به.