إعادة البنك المركزي في عدن لتعزيزات رواتب الموظفين المدنيين لشهر اكتوبر إلى وزارة المالية ليست مسألة اجرائية بسيطة، بل مؤشر خطير على عودة ازمة تأخير الرواتب وتراكمها من جديد، وربما لاربعة اشهر او اكثر. هذا المسار يعيد ضرب الاستقرار المعيشي للمواطن، ويكشف ان ملف الرواتب ما يزال يستخدم كورقة ابتزاز سياسي في لحظة مفصلية من تاريخ الجنوب.
ما يحدث لا يمكن عزله عن وجود لوبي تعطيل يعمل باجندة سياسية واضحة، هدفه الاضرار بالوضع الاقتصادي والمعيشي للناس، وتأجيج الشارع الجنوبي، ومحاولة معاقبة ابناء الجنوب على تحركاتهم المشروعة في حضرموت والمهرة، وسيطرتهم على ارضهم وثرواتهم. ويأتي ذلك منسجما مع تصريحات ومواقف رئيس المجلس الرئاسي في الفترة الاخيرة، حيث يتم الايحاء بشكل غير مباشر بان هذه التحركات ستنعكس سلبا على صرف الرواتب والخدمات.
هذه المعادلة المرفوضة يجب كسرها. فلا سيادة حقيقية ولا استقلال فعلي اذا ظلت لقمة عيش المواطن رهينة بيد مراكز نفوذ تستخدم الاقتصاد كسلاح سياسي. السيطرة لا تعني فقط سيطرة عسكرية او رفع علم دولة الجنوب على المؤسسات، بل تعني قبل كل شيء السيطرة على القرار المالي والاداري، وتحرير مؤسسات الدولة من اللوبي الشمالي المتغلغل في مفاصلها، والذي يعمل ضد اجندة الجنوب وضد مصالح المواطنين.
وفي هذا السياق، لا بد من موقف واضح ومسؤول من المجلس الانتقالي الجنوبي. فالمرحلة تتطلب ان لا يقتصر الضغط على الخصوم فقط، بل ان يشمل ايضا من هو محسوب عليه. يجب الزام الجميع بالامتثال للنظام والقانون، والعمل بروح مؤسسية تخدم المجتمع الجنوبي، لا ان تتحول المواقع والمسؤوليات الى ادوات تعمل لحساب اشخاص او مراكز نفوذ. هذا السلوك، ان وجد، يمثل خطرا لا يقل عن خطر الخصوم، ويشكل ثغرة يمكن للاعداء النفاذ منها لضرب مشروع الجنوب من الداخل.
كما ان بناء دولة المؤسسات يفرض بالضرورة اعادة ترتيب قيادة الوزارات والمؤسسات الحكومية، وتسليمها لكفاءات جنوبية مهنية ونزيهة من مختلف محافظات الجنوب دون استثناء. فحصر التعيينات في فئة معينة او منطقة بعينها يقوض الثقة، ويضعف الشعور بالانتماء، ويضرب اسس الوحدة الوطنية الجنوبية. التمثيل العادل والمتوازن هو الضمان الحقيقي لتوطيد اللحمة الجنوبية، وتعزيز الشعور بان الدولة مشروع جامع لكل ابناء الجنوب، لا ملك لفئة دون اخرى.
ان ممارسة الرقابة الصارمة، وتفعيل مبدأ المحاسبة دون مجاملات، بالتوازي مع توسيع قاعدة المشاركة الوطنية في ادارة مؤسسات الدولة، هي رسالة واضحة بان الجنوب يتجه بجدية نحو بناء دولة مؤسسات، وهي الدولة التي ينشدها المجتمع المدني الجنوبي ليعم الاستقرار في البلاد، وتغلق كل الثغرات التي قد يستغلها الاعداء للاختراق.
كما ان تحرير مصادر الثروة، وفي مقدمتها القطاعات النفطية والمؤسسات الايرادية، اصبح ضرورة وطنية لا تقبل التأجيل. استمرار سيطرة التابعين لنظام 7 يوليو على هذه الموارد يعني استمرار الابتزاز، وبقاء الجنوب رهينة للضغط الاقتصادي مهما تحققت من انجازات عسكرية. لا دولة بلا سيطرة على ثرواتها، ولا اقتصاد مستقر بلا قرار وطني مستقل.
لقد اثبت الواقع ان التحرير الاقتصادي اكثر اهمية واعمق اثرا من التحرير العسكري. العسكري يحمي الارض، اما الاقتصادي فيحمي كرامة المواطن، ويضمن استقرار حياته، ويغلق ابواب الفوضى والاختراق. ومن دون حسم هذا الملف، ستظل الرواتب اداة ضغط، وستتكرر الازمات، وسيبقى المواطن هو الخاسر الاكبر.
من هنا، فان بناء دولة جنوبية لكل ابناء الجنوب يبدأ بتحرير القرار الاقتصادي، وتنظيف المؤسسات من لوبيات التعطيل، وفرض النظام والقانون على الجميع دون استثناء، واعتماد الكفاءة والتمثيل العادل في التعيينات، واستعادة الثروة ووضعها في خدمة الناس. عندها فقط يمكن الحديث عن دولة مؤسسات حقيقية، وسيادة مكتملة، واستقرار اقتصادي يعزز الوحدة الوطنية الجنوبية ويصونها.