آخر تحديث :الجمعة-19 ديسمبر 2025-03:40م

أمانك في تأمينك

الأربعاء - 17 ديسمبر 2025 - الساعة 08:59 م
نجيب الكمالي

بقلم: نجيب الكمالي
- ارشيف الكاتب


في فجر عدن، حين كانت المدينة لا تزال نائمة، خرج الأب بخطوات هادئة، لكنه كان يحمل في قلبه زوبعة من الأفكار والهموم. خمسة أطفال ينتظرونه مساءً، ينتظرون ضحكاته، تنتظرهم يده التي لم تعرف الكلل، ووجوههم الصغيرة التي تبعث الحياة في روحه كل صباح.


سارة، أكبرهم، تسعة عشر عامًا، كانت تمشي بجواره أحيانًا، تحمل صبره في عينيها، تتنفس من خطواته رسالة الأمان، وتحاول أن تكتب في قلبها درسًا لمستقبلها: أن الغد ممكن، وأن كل تعب اليوم هو لبنة في جدار الكرامة.


في بداية العمل، أعطاه صاحب العمل بطاقة صغيرة، ورقة بلا صورة، بلا ملامح، تحمل اسمه ورقمه التأميني فقط. قالوا له: «هذا تأمينك». وضعها في محفظته، ولم يعرف قيمتها بعد، لم يكن يعلم أن هذه الورقة ستصبح يومًا سندًا له ولأطفاله، وجسر عبور للغيب، وأمانًا لحياتهم، ليس بعد وفاته فقط، بل في حال تقدّم به العمر أو أصابه عجز. أما صاحب العمل، فلم يكن يراها أكثر من وسيلة لإنهاء معاملاته وتسوية اشتراكات التأمينات.


مرت السنوات، الأيام تتوالى كأنها أنفاس لا تتوقف، وفي يومٍ من الأيام جاء مدير التفتيش، الدكتور أحمد فدعق، ودار بينهما حديث عابر، ثم صادف الأب شعورًا غريبًا: خوف من المجهول، وسؤال ينبع من قلبه:

"ما قيمة هذه البطاقة حقًا؟ ولماذا يُطلب منا الاشتراك؟"


ابتسم المدير بعينين تعرفان تعب الحياة، وقال بصوتٍ هادئ لكنه عميق:

«هذه البطاقة، ورقم التأمين، ليس مجرد اقتطاع من راتبك، ولا مجرد وسيلة لإنهاء معاملات صاحب العمل. إنها جسر عبور لأطفالك حين يغيب الأب، وسند يحفظ كرامتهم. وفي حال تقدّم بك العمر، سيكون هذا الرقم بطاقة أمان لك ولأسرتك، وإذا أصابك عجز، فهو ضمان لحياة كريمة.»


عاد الأب إلى البيت، ووقف أمام سارة، التي كانت تنتظر بصبر غير مكتمل، وترقب يختلط بالخوف:

«يا سارة… إن غبت يومًا، لا تضيعي الطريق. هذه البطاقة ورقم التأمين… طريقكم للحياة بكرامة. احفظيهما كما تحفظين نفسك…»


كانت سارة تمسك البطاقة، وتشعر بثقلها يتحول إلى شعاع أمل، وتتساءل في نفسها:

"هل كان أبي يعرف يومها أن هذه الورقة ستصبح كل شيء؟ هل كان يعرف أن الحياة بعده ستعتمد عليها؟"


ثم جاء الغياب بلا إنذار. جاء الأجل، وسقط البيت في صمت ثقيل. الأم تبكي كما تبكي الأرض حين تفقد ظلها، والجدران صامتة، والإيجار يطرق الباب قبل أي مواساة. تكفّل صاحب العمل لثلاثة أشهر فقط، ثم تراجع.


في العتمة، تذكّرت سارة وصية أبيها، أخرجت البطاقة ورقم التأمين من بين أوراقه القديمة. أحست بثقلهما يتحول إلى شعاع أمل، وتحركت نحو مؤسسة التأمينات الاجتماعية – عدن. قلبها يخفق بين الحزن والخوف والأمل، وخيالها يعيدها كل لحظة إلى أبيها:

"أبي… هل كنت تعرف أن هذه الورقة سترتفع فوق غيابك؟ هل شعرت أن تعبك سيحمينا؟"


استقبلها مدير الفرع الأستاذ فيصل الشعيبي، واستمع لحكايتها كما تُسمَع القصائد الحزينة، وقال بحزم ودفء:

«لكم حق قانوني في معاش الوفاة… وهذا الأمان يشمل الشيخوخة والعجز، وليس فقط بعد رحيل الأب. بطاقة الأب ورقمه التأميني هما ضمانكم، وحماية كرامتكم، لتظل ذكرى الأب حية في كل لحظة ضعف أو احتياج.»


دمعت عينا سارة، وابتسمت وسط الدموع، وعادت إلى البيت، وضعت البطاقة ورقم التأمين في يد أمها وقالت:

«أبي لم يتركنا وحدنا.»


في تلك اللحظة، اختلط الحزن بالأمل، والدمع بالابتسامة، وعاد الأب حاضرًا بما تركه من أمان وسند. جلست سارة مع أمها وأشقائها، تحدثت عن أحلامهم، وعن دروس الأب، وعن الأمان الذي لا يزول حتى مع فقدان الأحبة.


وهكذا، لم تكن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية مجرد مكتب، بل كانت ذاكرة للآباء، وسندًا للأمهات، وجسر نجاة الأبناء. بطاقة صغيرة، ورقم تأميني خفي القيمة، صنع حياة كاملة… حياة بكرامة، كأنها الضوء الذي يظل حاضرًا بعد غياب الشمس، ويستمر الأمل رغم فقدان الأحبة، وتتجدد الأحلام وسط واقع صعب، لتصبح شهادة حيّة على معنى الوفاء، والأمان، والكرامة.