في مارس من العام 2015، يوم اجتاح الحوثيون عدن، كان الجنوب يقف في واحدة من أقسى لحظاته التاريخية وأكثرها عزلة.
حتى هذا التاريخ لم يكن يملك جيشاً ولا دولة ولا مؤسسات، وكان شبه مجرد من السلاح، باستثناء مقاومة بسيطة في طور التشكل، يعمل عيدروس الزُبيدي على بنائها بإمكانات شحيحة وإرادة صلبة.
لم يكن للجنوبيين أي حضور في بنية الجيش أو مفاصل الدولة، بل كانت الدولة بكل أجهزتها موجهة ضدهم وضد حراكهم السلمي، تستهدف شبابهم في الساحات، وهم لا يملكون سوى علم دولتهم المنهوبة بيد، وبالأخرى قنينة ماء يغسلون بها أعينهم من الغاز المسيل للدموع.
حتى ذلك التاريخ، كانت الأرض تضيق بأهلها وتتسع لعشرات الأجهزة الأمنية والقمعية، ولسبعة وأربعين لواءً عسكرياً جاثمة على أنفاسهم،تحتل ارضهم، تنكل بهم، وتحاصر احلامهم .
على الضفة الأخرى، كان الشمال يمتلك ما كان يُوصَف بخامس أقوى جيش في الوطن العربي، جيشاً يملك الطيران والدبابات والمدفعية وصواريخ السكود التي نُهبت من الجنوب عقب اجتياحه في العام 1994.
كان الجيش اليمني منتشراً في كل شبر من البلاد، بصلاحيات مطلقة، ينهب ويسلب ويقتل، ولا تعلو فوقه سلطة، فيما كان يُقدَّم بوصفه حامي الدولة ووحدتها ورمز قوتها.
خلال أسابيع قليلة فقط من الحرب، تبدل مسار الأحداث وانقلبت كل المعادلات، فالجنوب الذي بدأ من الصفر، بلا ترسانة ولا غطاء، استطاع أن يحول الإرادة إلى قوة، والفكرة إلى مشروع، فانتصر في معركته الوجودية، ونظّم مقاومته، وبنى قواته، وعزّز قدراته العسكرية بدعم الأشقاء، حتى تمكن من تحرير أرضه وتثبيت الأمن وبناء واقع جديد بات يفرض نفسه على الداخل والخارج.
في المقابل، انهار الجيش اليمني الذي كان يمتلك كل أسباب القوة، وتراجع وتفكك، وسلّم سلاحه الثقيل والخفيف لمليشيا الحوثي، لينتقل من موقع “جيش الدولة” إلى حالة عبثية مثار سخرية، يقيم العروض والمسرحيات ليلاً، وينسحب من مواقعه صباحاً، بلا قتال ولا قرار.
تحرر الجنوب وتقدم، فيما تراجع الشمال حتى بات محاصَراً في مديريتين بمأرب وشارعين في تعز، في صورة تختصر حجم الانكسار السياسي والعسكري.
بالتزامن مع هذا التحول الكبير، تغيّرت مواقع الرجال أيضاً؛ قيادات جنوبية كانت مطاردة ومحكوماً عليها بالإعدام أصبحت اليوم في موقع القرار، تدير شؤون الدولة من قصر معاشيق، بينما قيادات شمالية كانت تمتلك الجيش والدولة تشتّت بين المنافي، أو ارتهنت للمليشيا، فاقدة القدرة على التأثير وصناعة القرار.
ماحدث يؤكد أن المعركة بالنسبة للجنوبيين لم تكن معركة سلاح بقدر ما كانت معركة قضية ووجود، فيما كانت لدى كثير من القيادات الشمالية استثماراً وتجارة حرب وسفريات لا تتوقف، وبيعاً للكلام في القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي.
بالمختصر، من قاتل دفاعاً عن أرضه وهويته انتصر، ومن قاتل دفاعاً عن سلطة مترهلة ووهم دولة خسر، مهما بلغ حجم ترسانته وعديد قواته، ومهما علا صوته.
منصور صالح