آخر تحديث :الأربعاء-24 ديسمبر 2025-11:45م

الجنوب إرادة تُنتزع ودولة تُستعاد

الأربعاء - 24 ديسمبر 2025 - الساعة 09:31 م
ماهر العبادي

بقلم: ماهر العبادي
- ارشيف الكاتب


في مسار الشعوب حين تتكثف اللحظة التاريخية، لا يعود الغموض فضيلة، ولا التردد حكمة هناك قوى تولد واضحة الملامح، صريحة الوجهة، تمشي على الأرض كما تعلن عن نفسها في السماء والانتقالي الجنوبي، منذ لحظة تشكله الأولى، كان من هذا الطراز فكرة خرجت من رحم المعاناة، وتحولت إلى فعل، ثم إلى واقع لا يمكن القفز عليه أو إنكاره.

منذ عام 2015م، لم تكن أهدافه العسكرية والسياسية نصوصاً معلقة في فراغ الخطاب، بل كانت أفعالاً من لحم ودم لم يقل ما لا يستطيع، ولم يعد بما لا يملك، بل ربط القول بالفعل، وجعل من الميدان ميزان الصدق الوحيد، فالأرض التي تحررت لم تحرر بالبيانات، بل بدماء الشهداء الأبطال، أولئك الذين كتبوا أسماءهم على تراب الجنوب لا بالحبر، بل بالتضحية، وجعلوا من أجسادهم جسوراً تعبر عليها الفكرة نحو الواقع.

التحرير هنا ليس مجرد استعادة جغرافيا، بل استعادة معنى. معنى أن يكون للإنسان وطن يحمي كرامته، وأن تكون للأرض ذاكرة لا تمحى فالانتقالي الجنوبي لم يتعامل مع الأرض كغنيمة، بل كأمانة، ولم يرئ في الدم وسيلة، بل ثمناً فادحاً لا يدفع إلا حين يصبح الصمت خيانة ومن هذا المنظور، تحوّل الفعل العسكري إلى تعبيرٍ أخلاقي قبل أن يكون ميدانياً، وتحولت السياسة إلى امتداد منطقي لتضحيات الشهداء.

أما في الفضاء السياسي، فقد كان الوضوح سمة لا تنفصل عن المسار أعلن الانتقالي أهدافه بلا مواربة أمام الرباعية، وأمام التحالف العربي، وأمام العالم أجمع نحن نناضل من أجل تحرير الأرض واستعادة الدولة.

لم يبدّل لغته بتبدّل السامعين، ولم يغيّر بوصلته تبعاً لموازين الريح وهذا الثبات، في عالمٍ تتبدّل فيه المواقف أسرع من تبدّل الفصول، يعد بحد ذاته موقفاً فلسفياً لأن الثبات على المبدأ هو أعلى درجات السياسة حين تُختبر في أزمنة الفوضى.

إن فرض الأمر الواقع لم يكن نزوة قوة، بل نتيجة حتمية لتراكم الفعل، فحين تتقدم الوقائع، تتراجع الأوهام، وحين تتكلم الأرض بما عليها، تصمت الشكوك.

لقد فرض الجنوب حضوره لأنه صنعه، وفرض صوته لأنه دفع ثمنه، وفرض قضيته لأنه لم يستعرها من أحد، هكذا تُبنى الشرعية الجنوبية لا من توقيع عابر، بل من تلاقي الإرادة الشعبية مع التضحية والفعل المنظم.

فلسفياً، يمكن القول إن تجربة الانتقالي الجنوبي أعادت طرح سؤال الدولة من جديد هل الدولة وثيقة أم إرادة؟ هل هي اعتراف خارجي أم اعتراف الناس بدمائهم وأحلامهم؟ والجواب الذي تقوله الوقائع على الأرض إن الدولة تبدأ حين يؤمن بها أبناؤها إلى حد الدفاع عنها، وحين تتحول الفكرة إلى ممارسة، والحلم إلى برنامج نضال.

في النهاية، ليس الحديث عن الانتقالي الجنوبي حديثاً عن كيانٍ سياسي فحسب، بل عن سردية شعب قرر أن يخرج من هامش التاريخ إلى متنه، وأن يستعيد صوته بعد طول صمت، سردية تقول إن الأوطان لا تمنح، بل تنتزع، وإن الدول لا تولد من رحم التسويات وحدها، بل من رحم التضحيات وبين الدم والفكرة، بين الأرض والهدف، يمضي الجنوب في طريقه، لا لأنه الطريق الأسهل، بل لأنه الطريق الذي اختاره بوعي، وسار فيه بثبات، ودفع ثمنه كاملاً دون أن يساوم على المعنى.