آخر تحديث :الإثنين-07 يوليو 2025-04:37م
أخبار وتقارير

تحليل سياسي : هل دفنت رمال المتغيرات الدولية آمال انفصال جنوب اليمن؟

الإثنين - 07 يوليو 2025 - 11:42 ص بتوقيت عدن
تحليل سياسي : هل دفنت رمال المتغيرات الدولية آمال انفصال جنوب اليمن؟
خاص

لطالما شكلت قضية الجنوب اليمني محورًا جوهريًا في المشهد السياسي اليمني، سواءً في مراحل الوحدة أو الانقسام. فمع كل تحرك دولي أو تسوية محتملة، تعود هذه القضية لتتصدّر النقاشات، مدفوعة بواقع معقد من الفشل السياسي، والتحولات العسكرية، والانقسامات المجتمعية العميقة. وبعد أكثر من عقد على الحراك الجنوبي وتصاعد المطالبات بالانفصال، يثور اليوم تساؤل جاد ومشروع: هل لا يزال مشروع الانفصال حيًا في ظل هذه المتغيرات؟ أم أن الواقع قد دفنه في رمال الإخفاقات والاصطفافات الجديدة؟


إن المطالبة بانفصال جنوب اليمن لم تكن وليدة اللحظة، بل هي امتداد لتراكمات تاريخية وثقافية وسياسية بدأت منذ ما قبل الوحدة اليمنية في 1990. عانى الجنوب في المراحل المختلفة من التهميش والإقصاء، وهو ما عزز نزعة الاستقلال في الوعي الجمعي لدى فئات واسعة من الجنوبيين. غير أن هذه النزعة اكتسبت زخمًا غير مسبوق بعد حرب 1994 التي رسّخت هيمنة السلطة المركزية لصالح نخب شمالية، وأسهمت في تفكيك المؤسسات الجنوبية ونهب مقدّراتها. ثم جاءت مرحلة ما بعد 2015 لتمنح المشروع الجنوبي دفعة جديدة بفضل الانخراط الإقليمي والدولي، إلا أن هذه المرحلة بدلاً من أن تُكلل بنجاح سياسي، كشفت هشاشة القيادات الجنوبية وانكشاف خطابها في اختبار الفعل.


لقد فشلت القيادات الجنوبية في الحكم، ليس فقط في تقديم نموذج بديل، بل تحولت أغلبها إلى مشاريع تجارية تتنافس على الثروات والمناصب. في مرحلة ما بعد 2015، أُتيحت لهذه القيادات فرصة ذهبية لتأسيس مؤسسات مدنية حديثة، وممارسة الحكم الرشيد، إلا أن الطموح الوطني تبدد وسط صفقات تجارية واستثمارات، وتحولت مؤسسات الدولة إلى هياكل فارغة تدار بآليات المحسوبية والمصالح الضيقة. هذا السلوك، الذي كرّس الفساد بدلًا من محاربته، أعاد للأذهان نموذج النظام الذي كانت هذه القيادات تنادي بإسقاطه، ما جعل المواطن يشعر بالخذلان ويتساءل: إذا كان هذا هو نموذج دولتهم المرتقبة، فكيف سيكون حال الناس بعد إعلان الانفصال؟


وتفاقمت الأزمة أكثر مع الانقسامات الجنوبية التي برزت بشكل صارخ، ليس فقط بين القوى السياسية، بل أيضًا بين المكونات الاجتماعية والمناطقية. فالتجربة التي كان يُفترض أن توحد الجنوبيين حول هدف مشترك، تحولت إلى حلبة صراع بين فصائل مختلفة، كل منها يدعي تمثيل القضية الجنوبية. ظهرت النزعات المناطقية بشكل فج، وأصبح للولاء الجغرافي اليد العليا في التعيينات والقرارات، بدلًا من الكفاءة والتمثيل الوطني. هذا الانقسام التاريخي، الذي تعود جذوره إلى ما قبل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، عاد ليطفو من جديد، مهددًا بفشل أي مشروع سياسي جنوبي غير قائم على شراكة شاملة وعدالة اجتماعية حقيقية.


وبرز إدراك متنامٍ بأن الشمال نفسه لم يكن هو الطرف الجائر دائمًا، بل إن النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة هي من استغلت الجميع. وقد ساعدت تجارب السنوات الأخيرة على تفكيك الصورة النمطية التي كانت تضع الجنوبيين في مواجهة الشماليين كمجموعة. تبيّن أن الضحية الحقيقية كانت المواطن اليمني ككل، شمالًا وجنوبًا، في ظل نظام مركزي سلطوي غلب عليه طابع العائلة والمركزية المفرطة. هذا الإدراك، الذي تكرّس بفعل المعاناة المشتركة، فتح بابًا جديدًا لنقاش وطني حول صيغة حكم بديلة تضمن العدالة والتمثيل، بدلًا من إعادة إنتاج صراعات الماضي.


كما أن الانتهاكات التي حدثت بعد 2015 في عدن وغيرها من المدن الجنوبية – من اعتقالات تعسفية، واغتيالات، وممارسات خارج القانون – قد هزّت قناعة الناس بمشروعية من كانوا يرفعون شعار التحرير والاستقلال. لقد أصبحت هذه الانتهاكات مادة يومية في حياة الناس، وتكرّست في أذهانهم بوصفها وجهًا آخر للاستبداد، لا يختلف عن الأنظمة التي سبق وأن عانوا منها. حالة الخوف من المجهول، واحتمال دخول الجنوب في أتون صراع دموي داخلي شبيه بما جرى في سبعينيات القرن الماضي بين رفاق الحزب الواحد، جعلت شريحة واسعة من الجنوبيين تتراجع عن حماسها لمشروع الدولة المستقلة، وتبحث بدلًا من ذلك عن ضمانات لبقائها وأمنها في أي صيغة سياسية قادمة.


وسط هذه المعطيات، تراجعت نسبة المطالبين بالانفصال، أو على الأقل خفتت الأصوات المتحمسة لذلك، وبات الحديث يدور أكثر عن الحكم المحلي الكامل الصلاحيات، كحل وسط يُراعي الخصوصيات ويحافظ على شكل الدولة. تعود فكرة الحكم المحلي في اليمن إلى نقاشات ما قبل الوحدة، ثم طُرحت بقوة في مؤتمر الحوار الوطني عام 2013، وأُعيد تبنيها لاحقًا ضمن مخرجات مسودة الدستور الجديد. النموذج الفيدرالي، رغم ما يثيره من جدل، يظل في نظر كثيرين الخيار الأنسب لتحقيق الشراكة الوطنية دون تفكيك الدولة. وهو صيغة يمكنها أن تستوعب التنوع اليمني، وتعيد توزيع الثروة والسلطة بطريقة تضمن العدالة وتكافؤ الفرص.


لكن رغم كل هذا الفشل الذي لازم تجربة بعض القيادات المطالبة بالانفصال، فإن من الموضوعية القول إن هذه التجربة وُلدت وسط بيئة شديدة التعقيد. لقد أفرزت الحرب واقعًا سياسيًا هشًا، وكرّست التبعية للخارج، وفرضت على القوى الجنوبية واقعًا أمنيًا وسياسيًا يصعب فيه اتخاذ قرارات مستقلة. فالمشروع الجنوبي، رغم إخفاقات نخبه، ظل رهينة الاصطفافات الإقليمية والتجاذبات الدولية التي جعلت من الجنوب ساحة صراع مفتوحة للمصالح لا مشروعًا وطنيًا متماسكًا. كما أن التحولات الجيوسياسية، وغياب الدعم الدولي العلني لأي مسار انفصالي، جعلت من المضي في هذا الاتجاه أقرب للمغامرة منه إلى الرؤية الاستراتيجية. إن فشل القيادات الجنوبية ليس معزولًا عن هذه المؤثرات، بل هو جزء من مشهد عبثي عام، يعاني فيه اليمن برمته من غياب الدولة وتعدد الولاءات وتغوّل القوى المسلحة.


وإذا ما نظرنا إلى المتغيرات الدولية، نجد أنها لا تميل لصالح المشاريع الانفصالية، خاصة في الدول الفقيرة والمضطربة. فالعالم اليوم أكثر ميلاً لدعم الاستقرار، وليس فتح جبهات جديدة للتقسيم. وقد بدا ذلك واضحًا في مواقف الدول الكبرى، التي وإن غضّت الطرف عن بعض الوقائع، إلا أنها لم تمنح أي غطاء سياسي لمشروع انفصال جنوب اليمن، وهو ما يشير إلى إدراكها لتعقيدات المشهد، وعدم قابليته لأي مغامرات سياسية جديدة. فبعد حرب أوكرانيا، والاضطرابات في الشرق الأوسط، تحوّل المزاج الدولي نحو البحث عن تهدئة الأزمات بدلاً من خلق كيانات جديدة يصعب احتواؤها، وهو ما جعل الانفصال خيارًا فاقدًا للشرعية الدولية.


إن المخرج العادل للقضية الجنوبية اليوم لا يكمن في الانفصال، بل في حوار وطني شامل، يعيد تعريف الدولة، ويوزع السلطة والثروة بعدالة، ويضمن تمثيلاً حقيقيًا لكل القوى والمكونات. على الجنوب أن يطالب بإصلاح جذري، لا بانفصال قد يقوده إلى المجهول. وعلى القيادات الجنوبية أن تُراجع نفسها، وتعيد صوغ خطابها وأدواتها، بعيدًا عن استثمار المظلومية وتحويلها إلى امتياز سياسي واقتصادي. فالوقت لم يفت بعد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن ذلك يتطلب شجاعة أخلاقية ورؤية وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة.


والحل؟


إن فشل مشروع الانفصال لا يعني مطلقًا القبول بنتائج حرب صيف 1994 أو الاعتراف بشرعية الاستبداد الذي أنتجته تلك المرحلة. فالوحدة القسرية التي فُرضت حينها، وما رافقها من تهميش وإقصاء ونهب لمقدرات الجنوب، لا يمكن تبريرها أو تجاوزها تحت ذريعة الحفاظ على الوطن. بل العكس، فإن أي مشروع سياسي مستقبلي عادل يجب أن يبدأ بالاعتراف بتلك المظالم ومحاسبة من تسبّب فيها، باعتبارها جذرًا أصيلًا في الأزمة اليمنية الراهنة. لكن في ظل انسداد أفق الانفصال، وتراجع الدعم الشعبي والدولي له، يصبح الخيار الأنسب هو التوجه نحو عقد اجتماعي جديد يعيد صياغة العلاقة بين المركز والأطراف.


هذا العقد يجب أن يقوم على مبدأ استقلالية المحافظات في إدارة شؤونها، من خلال نظام حكم محلي واسع الصلاحيات، أو حتى نظام فيدرالي مرن يضمن لكل محافظة التحكم بثرواتها وإدارتها لخدماتها ومؤسساتها. مثل هذا النظام من شأنه أن يعيد ثقة الناس بالدولة، ويمنع التمركز المفرط للسلطة، ويؤسس لمعادلة توازن تمنع الاستبداد في أي من أشكاله. الجنوب، الذي عانى من تهميش ما بعد 1994، يحتاج إلى ضمانات دستورية وتشريعية تكفل عدم تكرار تلك المرحلة، دون الحاجة للذهاب إلى الانفصال الكامل الذي قد يفتح أبوابًا لصراعات أشد خطورة.


الحل يكمن إذًا في الاعتراف بالتنوع اليمني، وتحويله من عامل تفتيت إلى مصدر قوة. وفي صياغة عقد اجتماعي جديد، تُكتب بنوده على أسس المصلحة الوطنية لا الغلبة العسكرية أو المناطقية. بذلك فقط، يمكن لليمن أن يخرج من دوامة الماضي، ويؤسس لدولة مدنية عادلة، تكون فيها كل المحافظات شريكة في القرار والثروة والمستقبل.