آخر تحديث :الجمعة-11 يوليو 2025-05:49م
أدب وثقافة

العطش.(أقصوصة)

الجمعة - 11 يوليو 2025 - 02:24 م بتوقيت عدن
العطش.(أقصوصة)
بقلم / عصام مريسي

الشمس لم ترسل خيوطها الذهبية بعد؛ بهت بريقها وتلاشت حيويتها التي تبعث في الكائنات الحياة وتمنح الأرض الدفئ ، ضوء الشمس في هذا الصبح منكسر ليس كعادته لم تستيقظ حيوانات القرية وتنطلق أصواتها إيذانا بيوم جديد ولم تستدر زهرات دوار الشمس تبحث عن المصدر الذي تسير فيه خيوط الشمس الذهبية ؛ فلم يدغدغ ضوء الشمس أوراقها ويأذن لكأس أزهارها بالتوسع وانتشار أزهارها حتى تفوح رائحتها الزكية وتعبق المكان بعطرها؛, مازالت حقول الذرة والشعير تغص في سبات الليل الطويل منكمشة ذابلة منطوية الثمار منكسة ملتفة إلى بعضها البعض تبحث عن الدفئ .

بيوت القرية الجبلية ذات البيوت الشاهقة وكأنها تعانق السحب وترسم معها لوحة جميلة مع تشاريف اسطحها متدرجة الإرتفاع ( رؤوس تبنى على أخر الأدوار إيذان باكتمال البناء) بيوت مبنية من حجار الجبال التي تقف عليها القرية شامخة ويفصل كل دور عن الأخر حزام من الجص الأبيض ويزين كل دور بعدد من النوافذ المتسعة من الداخل وتضيق من الخارج لتسمح لضوء الشمس بزيارة غرف الدور دون ان تكون كاشفة لخبايا البيوت بأشكال هندسية فائقة البراعة و سددها ( ابوابها) ما زالت موصدة تلك الأبواب الملونة بألوان الطبيعة الخلابة وعليها زخارف منحوثة من صور بعض الحيوانات والثمار والنباتات باللون الأخضر الداكن والزهري البهيج والأحمر الأقحواني والأصفر الفاقع جعلت من القرية لوحة مبهجة تسر النظر .

زخات من المطر في تناوب مع الطل يغطي سماء القرية ويضاعف من الإحساس بالبرد مع قدوم فصل الشتاء المعتدل البرودة لكن غياب الشمس في صباح القرية جعل من البرد زمهريرا وكأن شيء قد حدث في المناخ غير من حال القرية التي كانت تعج بالحياة كلما ارسلت الشمس تحيتها بإرسال أول اشعتها الحانية تتلمس حال أهل القرية وتبارك بساطتهم وحيويتهم وهم يستقبلون يومهم الجديد.

تزمجر السماء بأصوات رعد مخيفة وبريق صواعق تقطع جنح الظلام بوميض ضوء مرعب كأنها شرارة لهب ونذير بحلول حادث مفجع ينتظر القرية الحالمة في أحضان الجبال التي تتخللها الاودية التي انقطع ماؤه وحل القحط والجفاف والعطش.

شيخ القرية ومعه رجال القرية شيوخها وشبابها مازالوا عاكفين في المسجد ولم يغادروه بعد صلاتهم الفجر ولم يحظر الصلاة في المسجد إلا نفر قليل من أهل القرية التي غشاها ليل بارد وكأن الشمس قد أخذها النعاس في خذرها فاحتجبت عن الأرض لثوان وغاب نورها ومنع دفؤها .

ظل أهل القرية نساء ورجال متوارون خلف جدران بيوتهم الصخرية ولم تفتح أبوابها خوفا من مجهول تلك الليلة ونهارها على غير العادة لكن شيخ القرية رغم الظلام عاد من مسجد القرية ومد يده نحو معوله وخنزرته (ألة من الحديد على هيئة العصا تنتهي بسن حاد )تستخدم لحفر الأرض وتقليب التربة وسار نحو أرضه وخلفه زوجته تحمل على ظهرها الجلعاب(سلة مصنوعة من جلد البقر) تحمل على الظهر وتوضع بها عدة الفلاحة وما يحصد من الزرع وهو يدندن بالأهازيج والزوامل التي تبعث على النشاط والإقبال على العمل:

قال الحميد ابن منصور

الوقت كله مذاري

الذرة وقتها حال

هزت نويد المذاري

ياثورلا منت داري

ذريت والذاري الله

هو ذي يتم المذاري

ومن خلفه يتردد صوت زوجته وكأنه صدى لصوت في الصباح الذي ساده الصمت والريبة ليكسرا بترديد الأهازيج الشعبية الخاصة بفلاحة الأرض وهي تردد خلفه ما يقول:

ذريت والذاري الله

هو ذب يتم المذاري

شيئا فشيئا تفتح الأبواب بعد أن بعث الشيخ وزوجته الحماس والثبات في نفوس أهل القرية الذين حبسهم الخوف من تلك الليلة العابرة وماحملته من خوف وريبة وقلق جعلهم يحتجبون خلف جدران بيوتهم الصخرية وكلا قد وضع على كتفه خنزرته والنساء جلاعيبهن يضعن فيه الفال( وجبة الإفطار الاولى عند المزارعين) من لحول المشروع (,الدقيق المخلوط بالماء وحليب البقر الرائب) ودلل القهوة المصنوعة من البن البلدي المزروع في القرية في اوديتها وهم سائرون نحو المدرجات الجبالية يرددون الاهازيج خلف شيخ القرية؛

قال الحميد بن منصور،:

هزت نويد المذاري

يا ثور لا منت داري

نويد ( نجم ينذر بهبوب الرياح وقرب سقوط المطر)

ومن جديد تعج القرية بالحياة ويتدفق أهل القرية نحو مزارعهم الجبلية منتشرة المدرجات بين من يقلب التربة ويبذر وما أن توسطت الشمس السماء حتى أقبلت الفتيات بوجبة الشارقية لتعطي المزارعين نساء ورجال بطاقة جديدة للإستمرار في العمل مكونة من خبز المعطف المصنوع من طحين البر والفدرة المطبوخة من الحبوب المزروعة في القرية الشعير والذرة ودلل الشاي الأحمر والحليب ليجلس المزارعون لحظات للراحة وهم يتجاذبون الأحاديث عن يومهم وما قاموا به أعمال والمصاعب التي تصادفهم والشيخ وزوجته وقد انضم إليهما أولادهما شباب وشابات وهم ينظرون إلى والديهما بإعجاب:

أبي لقد منحت أهل القرية جرعة أمل

والأبن الأصغر يبدي إعجابه بوالده:

أبي انت اسطورة منحت أهل القرية العزيمة وكسرت حواجز الخوف ودمرت سلاسل اليأس.

يجيب الاب:

لابد أن نكون يا ابنائي مفاتيح للخير ونبعث الأمل ونسمح للنور الحياة أن يدخل القلوب ولا نستسلم للعوائق بل نحاول اختراق الصعاب ومعالجة المعضلات لا أن نستسلم للخوف واليأس

يقبل الأبناء نحو ابيهم لتقبيل جبينه

وكأن السحب تسمع لحوار الأبناء مع ابيهم فتجود عليهم بمنحة من زخات المطر لتروي الأرض العطشى بعد غياب اصاب الأرض بالعطش والجفاف فترتفع أصوات المزارعين،:

يا سيلوه .. يا سيلوه

يهرعون مغادرين المدرجات الجبلية بعد تهيئة ممرات لمجاري مياه السيل نحو الأراضي الزراعية فتتدفق مياه المطر المجتمعة على الجبال نحو الاودية سيول وتمتلئ الأبار بالمياه حتى تنطلق من قعرها الاودية بعد أن أصابها الجفاف ونذرة الماء فيها

والمزارعون مازالوا يرددون:

يا سيلوه .. يا سيلوه

عصام مريسي