آخر تحديث :السبت-12 يوليو 2025-01:01ص
أخبار المحافظات

حمام شرعة التاريخي السياحي في حالمين !

الجمعة - 11 يوليو 2025 - 09:36 م بتوقيت عدن
حمام شرعة التاريخي السياحي في حالمين !
كتب/ د. عبده يحيى الدباني ت/ صبري عسكر

في آخر مواسم الشتاء وبدء تعديل الجو وانقشاع نجوم البرد، يكون الناس في قرى حالمين على موعد مع حمام شرعة السياحي الذي عرفوه قبل أن يسمعوا عن شيء اسمه سياحة واستجمام، مع أن من أهداف زيارتهم له وبقاؤهم فيه بضعة أسابيع هو السياحة وتغيير الجو سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا.


في طبيعة الحال لا يذهب الناس جميعهم إلى ذلك المكان وإلا لضاق بهم المكان وصارت الحياة لا تطاق، فسهوله وشعابه لا تتسع للكثير.


ثم أن مرتاديه سنوياً ليسوا فقط القادمين من قرى حالمين القريبة والبعيدة، ولكن هناك وافدون كثيرون يأتون إليه من يافع والشعيب وغيرهما.


(حمام شرعة) ينطلق موسمه السنوي مع بداية فبراير من كل عام حين يبدأ موسم البرد بالانسحاب ويبدأ الجو يتعدل شيئاً فشيئاً كما ذكرنا، كان الناس قديماً وحتى ثمانينيات القرن العشرين يأتون إليه على ظهور الحمير والجمال أو يمشون على الأقدام وكانوا يحملون أشياءهم على ظهورهم أو على ظهور الحمير والجمال.


يقع هذا المكان الاستثنائي في طرف حالمين من جهة الشرق عند منتهى وادي شرعة قريباً من قرية نعمة، فهناك ينبع بقوة شلال مياه حارة معدنية من وسط الصخر، ويسمون ذلك النبع (المعينة) أي العين، وهو شلال متدفق قطره بحجم رقبة الجمل يصدر من ذلك الصخر الكبريتي حاراً جداً بحيث لا تستطيع أن تضع يدك فيه، لكنه لا يسبب أي حروق إذا ما تحملت شدة حراراته.


وإذا أخذت منه ماءً لطبخ الشاي أو القهوة، فإنه يستغرق حتى يفور أو يغلي نفس المدة التي يستغرقها الماء الاعتيادي في درجة حرارته أو غليانه، أي أن حرارة ذلك الشلال هي حرارة طبيعية، فترى في ذلك المكان أي فوهة الشلال تصاعد الدخان وما حول المكان يبدو أحمر اللون حتى الحصى وكذلك مجرى الماء من الشلال الحار.


وليس هناك منازل أو مساكن طبيعية يأوي إليها الوافدون إلى هذا المكان ولكنها جلوب متواضعة البناء ومنخفضة السقوف وضيقة المساحة وبناؤها اعتيادي حجراً فوق حجر ومن غير طين ولا تبطين، حتى أن مرور أكثر من شخص فوق هذا المبنى البسيط يمكن أن يتسبب في سقوط السقف نفسه، ومع أنها مساكن مؤقتة ولكنها معلومة النسبة إلى أصحابها، فأكثر الأسر كان لكل منها جلب في الحمام لا يسكنه غيرها إلا بإذنها، وإلى جانب الجلب تجد جلباً صغيراً يكون هو المطبخ ويسمونه المخدمة.


السبب الرئيسي لمجيء الناس إلى هذا المكان هو الاستشفاء من مياهه الحارة المعدنية من خلال الاستحمام فيها وبها، وهناك برك لهذه المياه يقعدون فيها داخل الماء مدة قد تطول وقد تقصر، والبعض يمكن أن يجلس ساعة أو أكثر فيها. يجلسون بهدوء من غير عبث بالماء أو السباحة فيه أو الحركة، ويمنع استخدام الصابون في هذه الأماكن المخصصة للاستحمام.


ومن العجيب أن الأمراض الجلدية المعدية لا تنتقل أو تنتشر بين الذين يستحمون في تلك المياه وهذا بحكم حرارتها وطبيعتها.


وهناك حمامات للنساء وحمامات للرجال وحمامات مشتركة للرجال والأطفال، ونقصد بالحمامات هذه البرك التي تملأ بالماء القادم من الشلال الحار بحيث يكون قد برد بعض الشيء، وتفتح هذه الحمامات مرتين في اليوم مرة في الصباح ومرة في المساء، وبعد العشاء يفجرون ماءها لينطلق سيلاً ضخماً باتجاه منطقة تدعى الزغار قريباً من حبيل الصريم، فيجتمع الماء هناك في سدود ضخمة ثم يسقون فيها المزارع وفيها يسبح من يريد السباحة أو يتعلم السباحة بحذر.


وتجد الناس أفواجا تأتي وأفواجا تعود إلى قراها، وقد كانوا يحملون معهم راشنهم المتواضع من دقيق وسمن وسليط وسكر وشاي وغيرها وغاز للأسرجة والفوانيس وغير ذلك من المونة، ومن العادات المشرقة التي كان يتميز بها هذا التجمع السنوي القادم من مختلف المناطق أن الطريق إليه سالكة آمنة والإقامة فيه كذلك، فبرغم الثارات التي كانت بين بعض القبائل في حالمين أو بينها وبين قبائل من يافع أو من الشعيب أو غيرها فإنه يحرم ويمنع أخذ أي ثارات في هذا المكان السياحي الثقافي العام، لقد كانت قبيلة العكيمي هي من تديره خلال العهد القبلي لأنه يقع في مظاربها وكان يدفع لها الوافدون ضريبة جراء ذلك التنظيم والإدارة.


كنا صغاراً نذهب لنجمع الحطب لأمهاتنا من المراعي القريبة للحمام جهة قرية نعمة، وكان شجر الأثل أكثر انتشاراً هناك، وكنا تارة نذهب لقرية نعمة نفسها لنبحث عن الحقين الذي نفتقده في الحمام فأبقارنا في القرى البعيدة فلا تطيب العصيد إلا حيث تكون مطبوخة بالحقين عندنا، فمرة يعطوننا ومرة يعتذرون لنا، فقد كانوا حاضري البقر ونحن كنا غائبيها!!


نعمة وما أدراك ما نعمة اسم على مسمى، تقع في وادي خصيب وقرية نعمة تسكنها قبيلة الليثي وقبيلة القاضي الحالميتين الشقيقيتين اللتين تمثلان نصف قبائل الأرباع الأربعة وهي الآن الانعمي والقاضي والليثي والعكيمي.


ويصادف موسم الحمام أن يكون وادي نعمة مزروعاً بالذرة الشامية وكنا وكان غيرنا يزور ذلك الوادي طلباً لسنابل الذرة الشامية الطرية للجهيش، أو لغير ذلك من حطب أو قصب للحمير وللجمال، وكان هناك ينبوع في أعلى وادي نعمة تحجز مياهه يوماً أو يومين ثم يفتح وينصب السيل من أعلى الجبل ويسقي الوادي كله، ويسمى ذلك الينبوع بـ(ركب القرص)، فيا لها من أيام جميلة!!


أجل يسمى ذلك الينبوع ركب القرص وقد نسجت حوله الأساطير وكلمة القرص الموجودة في اسمه توحي بذلك فمكان انطلاقه معلق بالجبل لا يستطيع التسلق إليه إلا المحترفون في ذلك.


أسبوعان إلى ثلاثة هي مدة الاستجمام والاستحمام والاستشفاء في ذلك المكان، فيبيض فيه الناس بفعل الراحة المؤقتة الطائرة الطارئة الفارغة من العمل وبسبب الاستحمام الدائم بمياهه الحارة الطيبة.


وفي هذا التجمع السياحي تجد أسواقاً مزدحمة ففي كل يوم تذبح البقر والغنم ويوصل القات من أماكن مختلفة وهناك حوانيت عتيقة تبيع أدوات تجميل وألعاب أطفال وملابس وبعض المواد الغذائية وغيرها.


والعيش في الحمام (يشتي صرفة) كما نسمع الكبار يقولون أي لابد من تغذية جيدة.


وفي المساء يجتمع الناس ويستمعون للأشعار والزوامل المختلفة، وفي الصباح أحياناً يسيرون مجتمعين وهم يرددون الأراجيز الزوامل، وكانت النساء من فوق سطوح الجلوب القوية ومن جوارها تتابعن هذه الطقوس الثقافية.


وكانت النساء دائماً في وضع زينة بحكم التفرغ وقلة العمل وكانت أزياء النساء مختلفة بعض الاختلاف بين نساء يافع ونساء الشعيب ونساء حالمين، وكانت الثياب السوداء المكسوة بالحرير الأصفر هي أعجب ما كنا نشاهده في النساء الوافدات مع ما يوضع على الرؤوس من مقارم مختلفة ألوانها ومعاجر سميكة وملونة ترتديها النساء، أحزمة بصورة عجيبة وبعضهن تلبس بريما من فضة تسمع له صوتاً يثير الفرح لأن ذلك الصوت ارتبط بالأعراس حين ترقص النساء لعبة النسوانية.


ولا يختفي شعر النساء كلية خلف المقارم المزركشة ولكنه يظهر فوق الجبين كموضة يقال لها (الفوشة) خاصة عند النساء المتزوجات، أما العازبات فموضتهن مختلفة.


حياة بسيطة، ولكنها ساحرة وصافية وبريئة ودافئة، وكنا لا نبرح نلعب في طريق الغيل والسيل ونصنع حواجز طفولية فإذا أشفق عليها الغيل جرفها السيل فيما يجرف كل مساء.


وللحمام لجنة تديره وتضبط أموره وتأمنه وتحل المشاكل التي تنشب بين المواطنين هناك، تشرف عليها السلطة المحلية في حالمين حبيل الريدة، وقد رأس هذه اللجنة سنوات طويلة طيب الذكر الشيخ شائف مانع المنتصر رحمه الله تعالى وطيب ثراه.


وفي أيامنا هذه أو منذ تسعينيات القرن الماضي تغيرت الحياة في ذلك المكان وقامت المنازل القوية المسلحة مكان الجلوب واختفى ذلك الشلال المدهش خلف أنابيب المياه وتحجبت النساء وتبرقعت، وحلت السيارات محل الحمير والجمال وصار هناك من يقطن ذلك المكان على مدار أيام السنة بفعل الجفاف في بعض القرى ولغيرها من الأسباب.


وشيدت هنالك المطاعم والفنادق والمساجد، وجرى تنظيم المجاري وهناك حمامات غير مكشوفة وغير ذلك من التحولات العاصفة!!


كان ذلك المكان ليلاً يردد أصوات الحمير حتى الصباح فما ينهق حمار في طرف الحمام حتى يتجاوب معه بقية الحمير المربوطة بعناية إلى جذوع الأشجار، وهكذا كانت تدهشنا الجمال المحملة القادمة من يافع غالباً، فلم تكن الجمال من ضمن حيوانات قرانا في حالمين إلا نادراً وكنا نستقبل كل جمل محمل قادم


بهذا النشيد:

وا جمل بعبع حملوك أربع!!


وهذا يشبه المثل الذي يقول: أربعة شلوا جمل والجمل ما شلهم!

أو المثل الذي يقول: القشة التي قصمت ظهر البعير.


وفي أحد أيام الموسم موسم الحمام ولعل ذلك كان في منتصف السبعينيات من القرن الماضي بينما كنا نلعب في الغيل تحت أشجار السمر، وكان الوقت عصراً فإذا بطائرة هليكوبتر تحوم في سماء الحمام تحلق وتحلق وكأنها تبحث عن محل مناسب ولكن ما من محل مناسب فوق تلك الجبال العالية ولا في بطونها، كانت تحلق والناس تتابع ذلك باندهاش وعجب وفضول ولا يخلو من الخوف خاصة لدى النساء والأطفال، كانت تقترب وتبتعد.. ترتفع وتنخفض حتى نكاد نرى الذين داخل الطيارة، وأخيراً اتجهت جنوباً مبتعدة بعض الشيء عن سماء الحمام ولحقتها أعين الناس وبدأت في النزول فادركوا أنها أخيراً ستهبط، فيهرول الجميع من الرجال والأطفال نحو المكان الذي تتهيأ الطيارة للهبوط فيه على بعد كيلوين اثنين تقريباً من الحمام، وربما أكثر قليلاً كان ذلك في حبيل الصريم، وحين اقتربت من الأرض أثارت الغبار بمراوحها المتحركة فمنعت عنا الرؤية، كنا في سباق مع الطيارة فهي تهبط من الجو رويداً رويداً ونحن نهبط من الحمام ركضاً إلى حبيل الصريم وإلى الآن لا يعلم الناس من تقل هذه الطيارة وما سبب قدومها وهبوطها في ذلك المكان، لقد كنا نعجب من الجمل فمالك بطائرة مروحية تحلق فوق رؤوسنا ثم تهبط وسطنا؟!


هبطت الطائرة أمامنا على بعد مئة متر تقريباً وظلت المراوح تدور وتثير الغبار وكان الناس يندفعون نحو الطائرة عجباً وفضولاً واستقبالا وفرحاً ولم يكونوا منتظرين مسافراً أو توزيع أي أشياء مادية بينهم مثلاً، سمعت الناس يتهامسون أن مسؤولين من عدن جاءوا على متن الطائرة لزيارة الحمام، لعل البعض كان يعرف من قبل بقدوم عدد من قيادات الدولة إلى حمام شرعة ولهذا رأينا سرعة استقبالهم وإيوائهم والترتيب لهم.. توقفت المراوح وبدأنا بالروّاح، سار المستقبلون من الرجال والأطفال عائدين إلى الحمام وفي الوسط كان الوفد القادم من عدن وحراسته موجودون معنا ولكننا كنا نصعد الجبل الصغير بكل سهولة وكانوا هم يتوقفون بين لحظة وأخرى ويستريحون من تعب المشي والصعود..


مررنا بجانبهم كانوا رجالا بيض الوجوه مبتسمين لنا بمودة وحنان، وكان عبد الفتاح إسماعيل رحمه الله على رأسهم، لم أنس وجهه المدور وابتسامته الحانية، كان مستلقياً على الصخر حين مررنا وكان الناس والحراسة من حوله.


كان ذلك حدثاً مثيراً في ذلك الموسم وكان من ضمن الوفد كما عرفنا فيما بعد كل من صالح مصلح قاسم ومحمد سليمان ناصر رحمهم الله وغيرهما.


سكن الرفاق في جلبين اثنين أو ثلاثة من جلوب الحمام وقام الناس بواجبهم، ولم نلاحظ أحمالاً كثيرة ومواداً دخلت الحمام معهم، كانوا يجلسون كل مساء في ضاحية الحمام مع المواطنين مع المخزنين وغير المخزنين، فجاء الشعراء وصدحت الليالي بقصائدهم كانوا من يافع وحالمين والشعيب وهكذا أيضاً دق الطبل وصاح الناي (الشبابة) فانطلق الرقص الشعبي بكل ألوانه، أما عبد الفتاح فلم نره يرقص، وأما عدد من أعضاء الوفد فقد رقصوا، وقد سمعنا فيما سمعنا أن الرفيق عبد الفتاح قد نصحه الأطباء بزيارة حمام شرعة من أجل الاستجمام ومن أجل الاستحمام في تلك المياه المعدنية الحارة الطبيعية بسبب آلام كان يعاني منها في العمود الفقري..!


بصراحة لقد عاشوا مثل سكان الحمام من حيث مساكنهم وغيرها في ظل حراسات قليلة لم تضايق الناس ولم تقيد حركتهم.


وفي هذا الحمام الكبير لا يوجد حمامات مثل التي نستخدمها اليوم في بيوتنا، لقد كان الجميع يذهب لقضاء الحاجة في الخلاء خارج الحمام وكان الضيوف مثلهم مثل غيرهم.


د. عبده يحيى الدباني