"نقيل الخلا".. الطريق الذي كسر العزلة ووحّد الجبال
د.علي صالح الخلاقي
بعض اللحظات لا تنتمي فقط إلى الماضي، بل تواصل العيش فينا، ناطقةً بما حملته من تحولات كبرى وتجارب لا تُنسى. ومن بين هذه اللحظات، تبقى فرحة افتتاح "نقيل الخلا" ذكرى خالدة، ما تزال محفورة في الذاكرة، أسترجع تفاصيلها وكأنها حدثت بالأمس القريب.
في 20 يوليو 1974م، كان أبناء يافع على موعد مع التاريخ، حين تحقق لهم حلمٌ كبير بافتتاح الرئيس الراحل سالم ربيع علي (سالمين) طريق "نقيل الخلا" الذي ربط بين يهر ولبعوس، منهياً عزلة طويلة فرضتها الجبال الوعرة، ومحولاً معاناة التنقل اليومية من فوق ظهور المطايا إلى متن السيارات في خطوة تنموية هائلة بمقاييس ذلك الزمن.
لا يدرك قيمة تلك الطريق إلا من ذاقوا مشقة التنقل مشياً على الأقدام قبل افتتاحها ، وما زلت أتذكر تفاصيل رحلتي برفقة والدي من مسقط رأسي "خُلاقة" إلى سوق يهر أسفل نقيل الخلاء حيث وصلت طرق السيارات إليه وتوقفت هناك أمام مناعة الجبال- قبل افتتاح طريق نخيل الخلا- فظل ذلك السوق التجاري هو مقصد التجار وانتشرت المخازن والمحلات التجارية المشيدة من صفيح (الزنك/ الزنج) التي ما زالت بقاياها موجودة كشاهدة على تلك المرحلة. كان والدي يملك حانوتاً صغيراً يكسب منه رزقه،وكانت رحلتنا شاقة؛ ارتقينا طرقاً جبلية صعبة، تسمى نِقْوَل، مفردها نقيل، تسلكه قوافل الحمير أو الجمال، محمّلة بالبضائع والرزق والصبر، وكان معنا ثلاثة حمير ستنقل البضاعة.
تحركنا من خلاقة مشياً على الأقدام، سالكين نقيل بني بكر، ثم نقيل ذَبُوب، فـنقيل ضَيْآن وصدر، حتى وصلنا إلى الطُف، ثم انحدرنا نزولاَ عبر نقيل الطف، وصولًا إلى نقيل الخلا، ومنه إلى سوق يهر.استغرقت رحلة الذهاب يومًا كاملًا، وكذلك العودة، ونحن نترحل بصحبة العرق والتعب، لكن في القلب شيء من البهجة.
ما زلت أذكر تلك الطرق المتعرجة، الطويلة، المحفوف بالصعوبات. وما زالت صورة قافلة الحمير تمضي أمامنا مثقلة بأحمالها، تتلوى في الشعاب والمرتفعات، وما زال حجارة النقيل المرصوفة ووعورته ماثلين في ذاكرتي كأن الرحلة حدثت بالأمس.
وهكذا شكّل افتتاح نقيل الخلا في حينه منجزاً كبيراً بمقاييس تلك الحقبة ، فلم يكن من السهل شق طريق في سلسلة جبلية صعبة، وربط مناطق نائية ببعضها، في ظل ظروف سياسية واقتصادية متواضعة. لكن المعجزة تحققت، وكان أبناء يافع على موعد مع ضوءٍ جديد في طرقاتهم، وبارقة أمل نحو مزيد من التواصل والاندماج التنموي والاجتماعي. صحيح أن الطريق حينها كان ترابياً، إلا أن تأثيره على حياة الناس كان بالغاً جداً، وقد استُقبل الحدث باحتفاء جماهيري حاشد قلّ نظيره، واعتُبر يوماً تاريخياً لا يُنسى.
ما زلت أذكر تفاصيل ذلك اليوم كما لو أنه حدث بالأمس. كانت الحشود تعمّ أرجاء الساحة وغطت التلال المحية بها، وتغنّت الجماهير بهذا الإنجاز في مهرجان شعبي غير مسبوق، حضره الآلاف من أبناء المنطقة، وعدد من الوزراء والمسؤولين، وفي مقدمتهم الرئيس المحبوب سالمين، الذي كان في أوج شعبيته آنذاك. وقد عبّرت القصائد والأغاني الشعبية عن فرحة الناس الكبيرة، ومنها أبيات شهيرة للشاعر محمد حسين صالح العمري (جعول) وغناها حينها الفنان محسن علي بن مسعد الصلاحي، يقول في مطلعها:
يا جازع طريق الخلا
سر لك بالملاوي دلا
والفت لايسرك واليمين
وادعم ثورة الكادحين
بالنسبة لي، كانت مناسبة خاصة ولحظة استثنائية لا تُنسى. فقد كنت حينها طالبًا في نهاية المرحلة الإعدادية، وقد كُلفت بمهمة تقديم المهرجان الجماهيري الكبير الذي أقيم بمناسبة الافتتاح. لم تكن هذه المرة الأولى التي أعتلي فيها منصة مهرجانية أو أقف فيها أمام الميكروفون ، فقد قدمت فعاليات ومهرجانات عديدة قبلها في بني بكر ولبعوس خلال مراحل دراستي الابتدائية والاعدادية، لكن الأمر كان مختلفاً هذه المرة واستثنائياً بكل المعايير: جمهور حاشد لا نظير له حينها، وحضور رسمي عال المستوى، ورئيس الجمهورية نفسه وقيادات الصف الأول يستمعون إليك.
لقد أديت المهمة بكل حب وحماسة، وسعدت بأن نال صوتي وتعليقي الارتجالي إعجاب الرئيس سالمين، الذي عُرف بتواضعه وروحه المحببة، وشدّه صوتي وتعليقي الارتجالي، ولأنه اطلع على نسخ من مجلتنا (الشباب والطلاب) فقد خصّني بكلمة تشجيعية ما زالت عالقة في ذاكرتي، إذ أوصاني بالكتابة لمجلة "الشعلة" التي كان يرأس تحريرها الأستاذ عبدالله ناصر ناجي، وصحيفة "الجديد" التي كان يرأسها الأستاذ محمد زيد في زنجبار، عاصمة المحافظة الثالثة حينها. وبالفعل، نشرت أخباراً في هاتين المجلتين لاحقاً، ومنها أول مقالة لي بعنوان: "واقع التعليم في المديرية الغربية (يافع) بين الماضي والحاضر" نُشرت عام 1975م في مجلة "الجديد"، وما زلت أحتفظ بها حتى اليوم.
كانت ميولي الأدبية و الصحفية قد برزت منذ وقت مبكر خلال المرحلة الابتدائية، من خلال الكتابة والرسم في المجلات الحائطية ، أما أثناء دراستي الإعدادية في أول مدرسة إعدادية تُفتتح حينها في المديرية الغربية من المحافظة الثالثة، في لبعوس،مطلع السبعينات ، فقد وجدت تلك الميول متنفساً لها في إصدار نشرة (الشباب والطلاب) التي كانت، كما هو واضح من اسمها، لسان حال اتحاد الشباب واتحاد الطلاب في يافع حينها،وكانت مدرستي الصحفية الأولى، إذ كنت أحد أعضاء هيئة التحرير باعتباري حينها رئيس اتحاد الطلاب في المديرية ، ورأس تحريرها سالم عبدالرحمن الشهابي رئيس اتحاد الشباب في المديرية ، لكنني كنت أقوم شخصياً بالعبء الأكبر في إعدادها وطباعتها بآلة (الاستنسيل) وإخراجها مزينة برسوماتي وخطوطي، وهو ما يعرفه ويشهد به زملائي في هيئة التحرير، ومنهم زميلي في الدراسة ورفيقي في رحلة الحرف والكلمة صديقي الكاتب المعروف صلاح حسن عبدالرحمن الطفي، ولا زلت أحتفظ بنسخ من بعض تلك الأعداد التي كانت توزع على مستوى المديرية الغربية، من رُصُد إلى الحد، وتُباع بسعر (50)فلساً. وعلى صفحاتها بدأ اهتمامي المبكر بالتراث الشعبي والدعوة لتدوينه، ففي العدد (9) الصادر في أكتوبر 1974م، كتبت موضوعاً بعنوان (تراثنا الشعبي .. ذخيرة أدبية قيمة يجب الاهتمام به وتطويره)، وحين أعود إلى تلك المقالة أجد أنها ماتزال تكتسب أهميتها الحيوية حتى اليوم ..
حينما أبلغت بمشاركتي في تقديم الحفل، تهيأت لتسجيل وقائعه، من خلال جهاز تسجيل (مُسجلة) حملته معي، وحرصت على تسجيل كل وقائعه. وبعد انتهاء الحفل بدأت بتفريغ التسجيل وتحويله إلى نص لنشره في العدد السابع من مجلة "الشباب والطلاب" الصادر في أغسطس 1974، وفيه خصصت مساحة واسعة لتغطية وقائع المهرجان، والكلمات التي أُلقيت، وفي مقدمتها كلمة الرئيس سالمين، وكلمة الفقيد المناضل حسين عوض عبدالقوي، المسئول التنظيمي للمديرية. وزيّنت غلاف العدد برسمة معبرة للرئيس سالمين بريشتي المتواضعة وهو يخاطب الجماهير المحتشدة من حوله، إذ كنت حينها شغوفاً بالرسم والخط.
ولا يفوتني أن أذكر أن الناس في يافع أخذوا يتداولون فيما بعد نكتةً فحواها أن الرئيس سالمين قال":إن هذه الطريق ضربة للامبريالية"، وأن أحد المواطنين علق حينها بقوله:" أنها ضربة له ولحماره". بما يعنى أنها أحرمته من عمله الذي كان يكسب به رزقه من خلال نقل الحمول من يهر إلى بقية مرتفعات يافع، مثل لبعوس واليزيدي والموسطة والمفلحي قبل افتتاح نقيل الخلا.. وللحقيقة التاريخية أقول أن نص خطاب سالمين وكذا خطاب السلطة المحلية لم يرد فيهما شيء من هذا الكلام، والخطابان مدونان في المجلة كلمة كلمة[انظر نصهما في الصورة المرفقة]، ولو قيل حينها ذلك لورد بالنص الموثق، وفي تقديري أن هذا القول أبدعته المخيلة الشعبية لاحقاً أو جاء على لسان أحد المتضررين من افتتاح النقيل الذي قطع رزقه، على سبيل التسلية والإضحاك والطرافة.
لقد تجاوز "نقيل الخلا" وظيفته كطريق للمواصلات، ليتحوّل إلى رمز للتقدم والانفتاح وكسر العزلة. وما زالت أصداء ذلك اليوم تتردد في ذاكرتي وذاكرة من عاصروه، لا لكونه طريقًا فحسب، بل لأنه لحظة ولادة وعي تنموي جديد، ونافذة أمل للمستقبل لا يعرف قيمتها إلا من عاش تلك اللحظة.
أما الصورة النادرة التي أعتز بها كثيرًا، فقد حصلت عليها من الصديق ماجد، نجل الفقيد المناضل حسين عوض عبدالقوي اليزيدي، رحمه الله. وهي صورة تاريخية توثق تلك اللحظة الخالدة، ويظهر فيها والده يلقي كلمة السلطة المحلية عبى المنصة بجانب الرئيس سالمين، بينما أقف إلى جانبه في "الفنيلة المخططة"، وبجواري زميلي العزيز الأستاذ محمد سالم زياد.
لقد مرّت خمسة عقود ونيف (51 عاما) على ذلك اليوم التاريخي ، لكن أثره لا يزال في القلب والذاكرة. لا لأنه يوم تنموي فحسب، بل لأنه شهد أيضًا ولادة الوعي بالمسؤولية، وأول شعاع لما يمكن أن يكون عليه الإنسان حين يتقاطع جهده الشخصي مع لحظة تاريخية في مسيرة مجتمعه.
