آخر تحديث :الأحد-27 يوليو 2025-12:43م
إقتصاد وتكنلوجيا

الاقتصاد السويسري: قيمة تنافسية شديدة رغم الفرنك القوي

الأحد - 27 يوليو 2025 - 09:33 ص بتوقيت عدن
الاقتصاد السويسري: قيمة تنافسية شديدة رغم الفرنك القوي
(عدن الغد): متابعات خاصة


في ظل التكهنات حول رغبة الولايات المتحدة في خفض قيمة الدولار لإنعاش صناعتها، قد يغفل البعض أن الدولار لم يعد العملة الأقوى في العالم، إذ يحتفظ الفرنك السويسري بهذا اللقب منذ عدة عقود. ورغم قوة الفرنك السويسري، لم تؤثر ذلك سلباً على القدرة التنافسية للاقتصاد السويسري.


تُعدّ سويسرا واحدة من الاقتصادات في العالم، فهي تتميز بوجود عملة قوية وقاعدة صناعية راسخة. وظلَّ الفرنك السويسري العملة الأقوى على مدى السنوات الخمس، والعشر، والخمس والعشرين، بل الخمسين عاما الماضية. وحتى في العام الماضي، حين استعادت بعض العملات التي كانت متعثّرة، بعضًا من عافيتها مقابل الدولار، ظلَّ الفرنك السويسري يحتلُّ موقعًا في الصدارة. وخلاصة القول إن لا عملة تضاهي الفرنك في استقرار قوته، هذا من ناحية.


وأمَّا على صعيد الاقتصاد، فقد أثبتت سويسرا أن الفكرة السائدة القائلة إن القوة الاقتصادية للعملة تؤثر سلباً في الأداء التجاري للدولة، وبالتالي تقلل من تنافسية الصادرات، ليست صحيحة. فقد شهدت سويسرا ارتفاعًا في صادراتها، التي تقترب اليوم من مستويات قياسية، سواء كجزء من إجمالي الناتج المحلّي (75%)، أو كنسبة من إجمالي الصادرات العالمية (حوالي 2%).


وربما يؤدي الإفراط في التركيز العالمي على أسعار الصرف إلى التغافل عن حقيقة أن سعر العملة ليس سوى عامل من مجموعة عوامل تُحدد القدرة التنافسية لأي بلد. ومثلما كانت الحال مع ألمانيا واليابان في ذروة تفوقهما الاقتصادي، تتمتع سويسرا اليوم بسمعة عالمية في تقديم منتجات، وخدمات عالية الجودة، تجعل الشرائح المستهلكة حول العالم مستعدة لدفع مبالغ أكبر للمنتجات التي تحمل عبارة “صُنع في سويسرا”.


ورغم أن سمعتها، كملاذ للأموال المشبوهة، لا تزال تطاردها، أظهر الاقتصاد السويسري دينامية استثنائية، وقدرة تنافسية تشمل قطاعات متعددة. فعلى مدى أكثر من عقد، تصدّرت سويسرا تصنيف الأمم المتحدة لأكثر الاقتصادات ابتكاراً، بفضل ما تستثمره من موارد في ميادين البحث والتطوير، والتعليم الجامعي التطبيقي، وكذلك بفضل العائدات العالية على هذه الاستثمارات.


وفي سويسرا، تُساهم كل ساعة عمل بأكثر من 100 دولار (82 فرنكًا) في إجمالي الناتج المحلي، ما يجعل مستوى الإنتاجية في هذا البلد يتجاوز أيّا من أكبر 20 اقتصادًا في العالم. وتُشجّع اللامركزية في النظامين السياسي والاقتصادي على ازدهار المؤسسات الصغرى، التي تُشكّل أكثر من 99% من إجمالي الشركات السويسرية. وإلى جانب ذلك، تحتضن البلاد عددًا كبيرًا من الشركات ذات القدرة التنافسية العالمية، في مجالات تمتد من الصناعات الدوائية إلى السلع الفاخرة.


استثمارات في الخارج

تتصدر سويسرا قائمة الاقتصادات الكبرى، حسب مؤشر “تعقيد الصادرات”، الذي طوّره مختبر النمو في جامعة هارفارد، ويعكس المهارات المتقدمة اللازمة لإنتاج السلع المصدرة. وتشمل هذه الصادرات مجموعة متنوعة من المنتوجات، مثل الشوكولاتة، والساعات، والأدوية، والكيماويات، مما يثبت أن القوة الاقتصادية للعملة لا تؤثر سلبًا في الصناعات التحويلية.


ويُشكِّل القطاع الصناعي في سويسرا نحو 18% من إجمالي الناتج المحلي، وهي من أعلى النسب في الدول المتقدمة. وتُصنّف أكثر من نصف صادراتها ضمن فئة “التكنولوجيا المتقدمة”، متفوقة بأكثر من الضعف على النسبة النظيرة لها في أمريكا. وبفضل القيمة المرتفعة لهذه المنتجات، تمكّنت سويسرا من الحفاظ على فائض في حسابها الجاري، بلغ أكثر من 4% من إجمالي الناتج المحلي منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي.


وتُعيد سويسرا ضخّ الفوائض الناتجة عن تجارتها الخارجية في شكل استثمارات ضخمة بالخارج. وقد مكّنها ذلك من تحقيق فائض صافٍ في الاستثمارات الدولية يتجاوز 100% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو ما يعزّز قدرتها على الصمود في وجه الصدمات الخارجية. وعلى العكس تمامًا، تعاني الولايات المتحدة من عجز كبير في كلٍّ من الحساب الجاري، وصافي الاستثمارات الدولية.


أما الخطر الرئيسي في سويسرا فيتجلّى في ارتفاع الدين الخاص [ديون الأفراد والشركات] كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. غير أنها، على عكس الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، لا تُعاني من ظاهرة “الشركات الزومبي”*، وهي الشركات التي لا تُحقق أرباحًا كافية لتسديد فوائد ديونها.


اقتصاد قادر على التكيّف

على مرّ السنوات، ودونَ صخب، رسّخت سويسرا دعائم اقتصادٍ قادر على التكيّف مع الأزمات. فقد واصل الفرنك ارتفاعه؛ سواء في فترات قوّة الدولار أو ضعفه، أوفي أوقات الركود أو الانتعاش الاقتصادي العالمي. ويبدو أنّ سويسرا تُجيد، ببساطة، الحفاظ على قدرتها التنافسية. ففي عام 2015، قفز سعر الفرنك نتيجة تحوّل في سياسة البنك الوطني السويسري، فجاء ردّ فعل قطاع الصناعات التحويلية سريعًا، من خلال التوجّه نحو منتجات متطوّرة أقلّ تأثّرًا بتقلّبات أسعار الصرف.


ويرى كثير من الخبراء والخبيرات في مجال السياسات، أنّ “المعجزات الاقتصادية” في شرق آسيا تتحقّق، إلى حدّ كبير، بفضل خفض قيمة العملات الوطنية. ولا شكّ أنّ أسعار الصرف المنخفضة ساعدت بعض الدول، مثل كوريا الجنوبية والصين، على تطوير صناعاتها التصديرية بوتيرة متسارعة. لكن لعبت عوامل أخرى، مثل الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، والانفتاح على رؤوس الأموال الأجنبية، دورًا أكبر. ومع تقدّم هذه الدول على مسار التنمية، أخذ تأثير أسعار الصرف في تنافسيّتها يتراجع تدريجيًّا.


أما الاقتصادات المتقدمة، فهي بحاجة إلى التنافس على صعيد الجودة لا السعر. وفي حالة سويسرا، فقد تأتي سياسة خفض قيمة العملة بنتائج عكسية، لأنها تُشجّع الشركات المنتجة على التركيز على إنتاج سلع أرخص. وتفيد الدروس التي تقدمها التجربة السويسرية، لدول مثل الولايات المتحدة، أن العملة الرخيصة ليست حلاً ناجعًا لإصلاح قطاع صناعي يعاني من اختلالات هيكلية.


*شركات الزومبي: هي شركات مثقلة بالديون، لا يكفي دخلها إلا لتغطية جميع النفقات الثابتة (مثل دفع الأجور أو الإيجار) ودفع الفائدة على قروضها، دون أن تكون قادرة على سداد الدَّين نفسه، تعتمد هذه الشركات بشكل عام على الائتمان الذي تمنحه لها البنوك لضمان بقائها، مما يجعلها في حالة اعتماد مستمر على السيولة التي يوفرها لها الدائنون، سواء كانوا بنوكا خاصة أو مؤسسات عامة. بعبارة أخرى، إن شركات الزومبي هي تلك الشركات التي لا تزال صامدة بفضل القروض، ولكن كاهلها مثقل بالديون لدرجة أنها لن تتمكن أبدا من سدادها، فهي لا ناجحة ولا مفلسة.