آخر تحديث :الجمعة-01 أغسطس 2025-10:39م
ملفات وتحقيقات

من الإهمال إلى الإنتاج.. تجربة مصنع الجبيونات في عدن كنموذج للتعافي المؤسسي (تقرير)

الجمعة - 01 أغسطس 2025 - 03:03 ص بتوقيت عدن
من الإهمال إلى الإنتاج.. تجربة مصنع الجبيونات في عدن كنموذج للتعافي المؤسسي (تقرير)
تقرير/ جلال الصمدي:

في هذا الوطن الذي اعتادت منشآته أن تُولد كبيرة وتشيخ باكرًا، ثم تُلقى على قارعة الإهمال، برزت حكاية "مصنع الجبيونات في عدن" كاستثناء يستحق التوقف عنده، لا لكونه مجرد مرفق أعيد ترميمه، بل لأنه شاهد حي على أن الإرادة حين تصحو، تستطيع أن تُنقذ ما بدا ميّتًا، وأن العزيمة حين تُقرن بالرؤية، تصبح قادرة على تحويل الخراب إلى فرصة، والركام إلى منجز.


لعقودٍ ظل المصنع،التابع للمؤسسة العامة للخدمات الزراعية-وزارة الزراعة والري والثروة السمكية،أحد المرافق المتخصصة في إنتاج الجبيونات-وهي السلال المعدنية المستخدمة في حماية الجسور والطرقات وضفاف الأودية من التآكل والانهيار-لكن مثله مثل كثير من المنشآت في بلادنا، توقفت عجلاتها عن الدوران بفعل الحرب، وانهارت بنيته التحتية بفعل الإهمال، وتُرك لمصيره في زوايا النسيان، فيما الوطن أحوج ما يكون إلى كل ذرة إنتاج وإبداع واستثمار.غير أن هذا المصير لم يكن نهائيًا، فقد شاءت الإرادة الإدارية في وزارة الزراعة أن ترفض الاستسلام، وأن تخوض معركة الصيانة والتأهيل بنفس الروح التي تخوض بها معركة التنمية. وكانت البداية من رؤية واضحة رسمها معالي وزير الزراعة والري والثروة السمكية اللواء سالم عبدالله السقطري، رجل الدولة الذي لا يؤمن بالمنشآت المعطلة، فوجد في مصنع الجبيونات فرصة لإعادة الحياة لا لمنشأة فحسب، بل لروح مؤسسية كانت على وشك التلاشي.


ولأن أي رؤية تحتاج إلى ذراع تنفيذية تترجم الطموح إلى واقع، كانت الاستعانة بالمهندس علي قحطان، مدير المصنع، خيارًا حاسمًا ومثمرًا، فالرجل لم يتعامل مع المصنع كمكان مهجور، بل ككائن يحتضر ويحتاج إلى من يسعفه، فخاض التحدي بكل ما أوتي من جهد وإيمان، وبدأ رحلة شاقة بين ركام المعدات القديمة، وأكوام الصدأ، والموارد المحدودة، ليصنع من العدم نقطة انطلاق جديدة، ولينقذ المصنع من قفاه السحيق، ويعيده إلى قلب المشهد الإنتاجي الوطني.


وفي هذا التقرير سوف نستعرض وبالتفاصيل نشأة المصنع ودوره في حماية الأودية والقنوات والحواجز المائية،من الانهيارات الناجمة عن السيول ومياه الأمطار ووحداتة الإنتاجية وجهود وزارة الزراعة والأسماك والمؤسسة العامة للخدمات الزراعية وإدارة المصنع لإعادة تأهيله لمواكبة التطورات كما يستعرض التقرير الأثر الإقتصادي والإجتماعي المتوقع لإعادة تأهيل،بالإضافة إلى التحديات التي تواجه المصنع وسبل معالجتها لضمان نجاح هذه الخطوة الحيوية والبداية من:-


•نشأة مصنع الجابيون ودوره في حماية الأودية والقنوات والحواجز المائية،من الانهيارات الناجمة عن السيول ومياه الأمطار:-


تأسس مصنع الجابيون في عدن عام 1975م في مديرية خور مكسر العاصمة عدن، بهدف تلبية احتياجات البلاد من أشباك الجابيون المتخصصة. هذه الأشباك المعدنية لها دور حيوي في حماية الأودية والقنوات والحواجز المائية، وكذلك الطرق من الانهيارات والتلف الناجم عن السيول ومياه الأمطار التي تشهدها المحافظة بشكل دوري.


مع مرور الزمن، أصبح مصنع الجابيون مؤسسة وطنية مهمة، حيث يعتمد عليه في توفير 90% من أنواع الشباك المتخصصة التي تستخدم في مشاريع تسوير المزارع والأراضي الزراعية، إضافة إلى تصنيع الأسلاك الشائكة متعددة الاستخدامات، ما يجعله ركيزة أساسية في منظومة الحماية البيئية والزراعية في عدن والمحافظات المجاورة.


•طاقة إنتاجية وكفاءة تشغيل:-


يتبع مصنع الجابيون إدارياً المؤسسة العامة للخدمات الزراعية،إحدى أهم أذرع وزارة الزراعة والري والثروة السمكية، والتي تعمل على توفير احتياجات القطاع الزراعي من البذور، والمعدات، والمواد الإنشائية المرتبطة بتنفيذ مشاريع الحماية والري.ويضم المصنع ما يقارب 53 عاملاً منهم ثابتين ومتعاقدين ومابين 20 إلى 30 عاملاً يعملون بالأجر اليومي.وينتج المصنع في حدود 3 طن يومياً من الأشباك المختلفة ويمثل الجابيون 90٪، أهمها الأشباك الرباعية والمغلفة بالبلاستيك والتي يستفيذ منها في تسوير الأحواش والمزارع والأسلاك الشائكة متعددة الاستخدامات ومع ازدياد الطلب على منتجات المصنع تضاعف إنتاجه ليصل إلى 5 طن يومياً.


•الوحدات الإنتاجية في مصنع الجبيونات:-


يضم مصنع الجبيونات التابع للمؤسسة العامة للخدمات الزراعية-وزارة الزراعة والري والثروة السمكية- عددًا من الوحدات الإنتاجية المتنوعة، التي تشكل العمود الفقري لعملية التصنيع داخله. وتتنوع هذه الوحدات بين ما هو عامل حاليًا ويساهم بفاعلية في تلبية احتياجات السوق المحلي، وبين ما هو متوقف نتيجة لأسباب فنية ومالية تحتاج إلى معالجة.


•الوحدات العاملة تشمل:-

-وحدة إنتاج شباك الجبيونات: وتعد الوحدة الأساسية في المصنع، حيث يتم فيها تصنيع الشباك المعدنية المستخدمة في الجبيونات بمقاسات وتصاميم متعددة.

-وحدة إنتاج الأشباك الحائطية المجلفنة والمغلّفة بالبلاستيك: تُستخدم هذه المنتجات في أعمال التسييج والحماية الزراعية والإنشائية.

-وحدة تصنيع الأسلاك الشائكة: وتلعب دورًا حيويًا في توفير المواد اللازمة للأغراض الأمنية والزراعية.


أما الوحدات المتوقفة فهي:-

-قسم سحب الأسلاك الحديدية:الذي يُعتبر أساسًا في إنتاج المادة الخام لشبك الجبيونات.

-قسم تلين الأسلاك الحديدية والمعالجة الحرارية: وهو مخصص لتحسين مرونة وجودة الأسلاك قبل استخدامها.

-قسم الجلفنة (الطلاء بالزنك):ويهدف إلى حماية الأسلاك من التآكل والصدأ، وهو قسم محوري لرفع جودة المنتج.

-وحدة تغليف الأسلاك بالبلاستيك: تُمكن المصنع من إنتاج شبكات مغلّفة مقاومة للعوامل البيئية.

-قسم الطرق (التشكيل بالطرق):

والمختص بتشكيل أجزاء معدنية خاصة لبعض التطبيقات الهندسية.وإعادة تأهيل هذه الأقسام المتوقفة تمثل أولوية قصوى لدى الإدارة الحالية، لما لها من أهمية في رفع الطاقة الإنتاجية للمصنع وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتوسيع مجالات الاستخدام.


•مصنع الجبيونات من الإهمال إلى التشغيل:-


لسنوات طويلة، كان المصنع خارج دائرة الفاعلية، يرزح تحت عبء الإهمال وشح الموارد، إلى أن جاءت رؤية الوزير اللواء سالم السقطري، الذي وجه منذ توليه مهام الوزارة عام 2020م،بضرورة إعادة تأهيل المنشآت التابعة للقطاع، وعلى رأسها مصنع الجبيونات بعدن، ولذلك لم يعد مصنع الجبيونات ذلك المكان الصامت المنسي وسط ركام المؤسسات المتوقفة..بل أصبح خلية عمل تضج بالحياة، وشاهدًا على أن الإرادة الرسمية حين تُترجم إلى أفعال، والإدارة المخلصة حين تُمنح الثقة، يمكن أن تُعيد للمرافق العامة نبضها، وللدولة حضورها.ولم يكن النجاح ممكنًا لولا الجهود اليومية المتواصلة لمدير عام المصنع *الأستاذ علي قحطان*،الذي تولى قيادة المصنع في مرحلة دقيقة، وعمل على تفعيل خطوط الإنتاج، وتوفير بيئة تشغيلية مناسبة رغم شح الإمكانيات.فبخبرته الإدارية والفنية أشرف قحطان على تأهيل خطوط إنتاج الجبيونات ، وتأمين المواد الخام، وتدريب الكوادر، بالإضافة إلى تعزيز علاقة المصنع مع مشاريع الوزارة، وتحويله إلى مصدر رئيسي لتوريد الجبيونات لمشاريع الري والحماية في محافظات أبين، لحج، شبوة، الضالع، وعدن. وأصبح المصنع مساهمًا حقيقيًا في حماية الأراضي الزراعية، وتدعيم مصارف المياه، وأثبتت "الجبيونات المصنعة محليًا فعاليتها وجودتها وتفوقت على البدائل المستوردة من حيث المتانة والسعر وسرعة التوريد".


•الحاجة إلى إعادة تأهيل المصنع لمواكبة التطورات:-


يمثل مصنع الجبيونات في عدن نموذجًا حيويًا لإمكانات التصنيع الزراعي في بلادنا، ودليلًا على قدرة المؤسسات الوطنية على إنتاج احتياجاتها الحيوية بأيدٍ محلية، رغم التحديات.ويُعد هذا التوجه خطوة استراتيجية نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال تقنيات الحماية الزراعية، بما يعزز من قدرة البلاد على مواجهة الأزمات البيئية والمناخية المتكررة،ونجاحه ليس مجرد إنجاز تقني،بل هو انتصار لروح الإرادة والإصرار في زمن الحرب والظروف القاسية. إنه دليل على أن الاستثمار في أدوات الحماية والإنتاج الوطني هو حجر الزاوية لبناء مستقبل زراعي مستدام، يُعيد للأرض خضرتها، وللمزارع كرامته، وللوطن أمنه الغذائي.


ومع التطورات المتسارعة في تقنيات التصنيع ومع ازدياد المشاريع الزراعية والتنموية، برزت الحاجة الماسة إلى تحديث المصنع لتلبية الطلبات المتزايدة

أصبح من الضروري إعادة تأهيل المصنع وتجهيزه بأحدث الآلات والمعدات، من أجل مواكبة هذه المتطلبات المتزايدة، وتحقيق نقلة نوعية في جودة وكفاءة الإنتاج. هذا الأمر دفع الجهات المعنية في وزارة الزراعة والأسماك والمؤسسة العامة للخدمات الزراعية وإدارة المصنع إلى تبني خطة شاملة لإعادة تأهيل المصنع، تتضمن تجهيز المصنع بأحدث الآلات الصناعية، أبرزها آلة الجابيون وآلة الشباك الرباعية، لتعزيز قدراته الإنتاجية وتلبية متطلبات السوق المتزايدة.


•جهود إدارة المصنع لتوسيع الطاقة الإنتاجية،وتحسين جودة التصنيع،:-


جهود إدارة مصنع الجبيونات لم تقتصر على الجوانب الفنية فقط، بل شملت تحسين ظروف العمل وتوفير بيئة آمنة وصحية للعاملين، مما ينعكس إيجاباً على الروح المعنوية للموظفين وتحفيزهم على تقديم أفضل ما لديهم.

إذ يشرف مدير المصنع وبشكل مباشر على مراحل إعادة التأهيل والتطوير، وينسق مع الفرق الفنية لضمان تركيب وتشغيل المعدات الجديدة بكفاءة.


تتبني إدارة المصنع أساليب عمل حديثة تساهم في تحسين الأداء وزيادة الإنتاج وتعمل على تحسين جودة التصنيع، وتدريب المزيد من الكوادر، لتلبية الطلب المتزايد على منتجات الجبيونات في مشاريع التنمية الزراعية والمائية،إلا أن ظروف العمل والمعدات المستخدمة لم تكن في مستوى التحديات الحالية والمتطلبات المتزايدة للسوق. خصوصاً في ظل التطور السريع في تكنولوجيا التصنيع والطلب المتنامي على منتجات المصنع، باتت الحاجة إلى تحديث خطوط الإنتاج واضحة وجوهرية.لذلك، تأتي أهمية إعادة تأهيل المصنع وتجهيزه بأحدث آلات تصنيع الجابيون والشباك الرباعية كضرورة استراتيجية لمواكبة التطورات الصناعية الحديثة، ورفع مستوى الجودة والكفاءة في الإنتاج، ما يتيح تغطية أكبر للطلب المحلي والإقليمي وهذا التحديث سيمكن المصنع من زيادة الطاقة الإنتاجية إلى مستويات أعلى، مما يؤدي إلى تحسين حجم الإيرادات، وتوفير فرص عمل جديدة، ومساعدة العمال على تحقيق مستوى معيشي أفضل، بالإضافة إلى المساهمة الفاعلة في تحقيق التنمية المستدامة.


•الأثر الإقتصادي والإجتماعي لإعادة تأهيل المصنع:-


إعادة تأهيل مصنع الجابيون خطوة محورية نحو تعزيز الاقتصاد المحلي، حيث سيسهم زيادة الإنتاج في تغطية احتياجات السوق المتزايدة، مما يقلل من واردات هذه المواد ويوفر العملات الأجنبية.كما سيساهم في خلق فرص عمل إضافية، وتوظيف المزيد من العمالة، خاصة فئة الشباب الباحثين عن فرص عمل، ما يساعد على امتصاص البطالة وتحسين مستوى المعيشة بالإضافة إلى ذلك، فإن رفع كفاءة المصنع سيمكنه من تقديم منتجات ذات جودة عالية تلبي معايير السلامة والمتانة المطلوبة في مشاريع الحماية، مما يحافظ على استدامة البنية التحتية ويحمي المجتمعات المحلية من مخاطر الانهيارات والسيول.



وأخيراً قصة إعادة تشغيل مصنع الجبيونات لم تبدأ من الصفر، بل من تحت الصفر. فقد كانت التحديات هائلة: بنية متهالكة، موارد مالية شحيحة، غياب للكوادر الفنية المدربة، وانعدام للثقة بأن المصنع يمكن أن يعود للحياة.

وحين تدخل اليوم إلى باحة المصنع، لا ترى أطلالًا متآكلة، بل ورشة حياة تضج بالحركة. العمال الذين كانوا بالأمس القريب عاطلين، باتوا اليوم في سباق مع الزمن لإنتاج الجبيونات بمواصفات عالية، والمعدات التي خنقتها الأتربة والصدأ عادت تدور وتصدر صوتًا يشبه دقات القلب في صدر من عاد إليه الأمل. كل زاوية من زوايا المصنع تروي حكاية: عن آلة أعيد ترميمها، أو غرفة أُهّلت، أو خط إنتاج بُعث من العدم.