شهد الريال اليمني خلال الأيام الماضية تحسنًا ملحوظًا في قيمته أمام الدولار الأمريكي، ما أعاد إلى أذهان المواطنين آمالًا طال انتظارها بشأن انفراجة اقتصادية حقيقية بعد سنوات من الانهيار والغلاء المستفحل. لكن هذه الآمال لا تزال معلّقة على مشجب "الواقع التجاري"، الذي يُعتبر اللاعب الأهم في تحويل تحسّن الصرف إلى واقع معيشي ملموس. وبين تذبذب السياسات الحكومية، وغياب الرقابة، وتعنّت التجار، يبرز السؤال المحوري: هل سيشعر المواطن حقًا بانخفاض الأسعار؟
أولًا: من أين بدأ الانخفاض؟
التحسّن في سعر صرف الريال اليمني لم يكن وليد الصدفة، بل جاء بعد تضافر عدة عوامل داخلية وخارجية. فقد أعلنت المملكة العربية السعودية عن استعدادها لتجديد دعمها المالي للحكومة اليمنية، من خلال دفعة جديدة من الوديعة النقدية، وهو ما عزز الثقة المؤقتة بالعملة الوطنية. إلى جانب ذلك، قام البنك المركزي في عدن بسلسلة إجراءات تنظيمية ضد شركات صرافة مخالفة، ومحاولة توحيد آلية التسعير، وضبط السوق المصرفي، بعد فوضى استمرت شهورًا. كما أصدرت إدارة البنك تعليمات مشددة بإغلاق محلات التحويل غير القانونية، وفرض رقابة أكبر على شبكات المضاربة بالسوق السوداء، وهي خطوة لقيت ترحيبًا مبدئيًا، لكنها لا تزال محدودة الأثر إذا لم تُستكمل.
من جهة أخرى، لعب الإعلام دورًا بارزًا في الضغط على الحكومة للتحرك، بعد أن فجّر صحفيون وناشطون ملف انهيار العملة في وجه المسؤولين، مما تسبب بحالة توتر في أوساط السلطة النقدية، وساهم جزئيًا في تسريع الإجراءات. لكن، ورغم هذا التحسّن النسبي، فإن الريال لا يزال هشًا ومهددًا بالارتداد في أي لحظة، خصوصًا مع استمرار الانقسام المالي بين عدن وصنعاء، وغياب مؤسسات اقتصادية قادرة على إدارة السوق بفعالية. وهذا ما يجعل التحسّن الحالي فرصة ثمينة، لكنها قصيرة الأجل، ما لم تواكبها خطة اقتصادية وطنية حقيقية.
ثانيًا: هل بدأ الانعكاس فعلاً على الأسواق؟
رغم تسجيل تراجع واضح في سعر الدولار أمام الريال اليمني خلال الأيام الماضية، إلا أن المواطن العادي لا يزال يتساءل: "أين أثر ذلك على السوق؟"، والجواب المؤلم حتى الآن: الأسعار كما هي، بل وبعضها لا يزال يرتفع. فالأسواق في عدن وتعز والمكلا وحضرموت لا تعكس هذا التحسّن حتى اللحظة، مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول آلية التسعير، وغياب الربط بين سعر الصرف وسعر السلعة. بعض المحلات التجارية الكبرى بادرت بتخفيض طفيف شمل بضائع محددة، مثل الأرز والدقيق والدواجن، لكن هذا الخفض لم يكن بمستوى التغير في سعر الصرف، ولم يشمل معظم السلع الأساسية الأخرى.
أما الغالبية الساحقة من المحلات والبقالات، فلا تزال تبيع بأسعار مرتفعة، متذرعة بأن البضائع الحالية تم شراؤها بسعر صرف أعلى، وبالتالي لا يمكن تخفيض السعر إلا بعد تصريف المخزون. هذه الذريعة تثير السخرية، إذ أن هؤلاء التجار كانوا يرفعون الأسعار في نفس اليوم الذي يرتفع فيه الدولار، دون النظر إلى تاريخ شراء البضاعة. فالسوق اليمني يخضع لقانون "الربح في الارتفاع، ولا خسارة في الانخفاض"، وهو منطق غير عادل حوّل التاجر إلى خصم للمستهلك بدل أن يكون شريكًا في الاستقرار الاقتصادي.
غياب التسعيرة الرسمية اليومية من الجهات المعنية، وفشل مكاتب الصناعة في النزول الميداني، سمح للتجار بالتحكم المطلق في السوق، دون أي ضوابط حقيقية. وهذا يثبت أن أي تحسّن نقدي، ما لم يُترجم إلى انخفاض ملموس في الأسعار، لن يخلق فرقًا في حياة الناس، بل سيزيد إحباطهم.
ثالثًا: المسؤولية الأخلاقية والرقابية: من يضبط السوق؟
المنظومة الرقابية في اليمن باتت مشلولة فعليًا، والمواطن لم يعد يرى لها أثرًا إلا في المناسبات، أو في إطار حملات إعلامية لا تتجاوز الصور التذكارية. وزارة الصناعة والتجارة، رغم أنها الجهة المسؤولة مباشرة عن مراقبة الأسعار وتنظيم السوق، إلا أنها تبدو حتى الآن غير قادرة أو غير راغبة في القيام بمهامها، سواء في عدن أو في بقية المحافظات. البيانات الصادرة عنها تتحدث بلغة رمادية لا تتناسب مع واقع السوق الملتهب، والقرارات التي تصدر من مكاتبها، إن وُجدت، لا تُنفذ على الأرض.
السلطات المحلية بدورها تمارس سياسة التجاهل، وكأنها غير معنية بمعركة الأسعار. في عدن، وتعز، والمكلا، لا يوجد حضور فعلي للرقابة التموينية، ولا يتم اتخاذ إجراءات عقابية ضد المحلات المخالفة. المفارقة أن نفس الجهات الحكومية التي تُجيد فرض الضرائب والرسوم والغرامات، تقف عاجزة حين يتعلق الأمر بحماية الناس من جشع التجار.
هذه الحالة المؤسفة جعلت المواطن يشعر بأنه متروك لرحمة السوق. لا جهة تحميه، ولا منظومة تضبط الأسعار، ولا مؤسسات تصدر قرارات ملزمة. المسؤولية الأخلاقية الآن ليست فقط على الدولة، بل على التجار الكبار الذين يملكون القرار الحقيقي في التسعير. فحين يستمر أحدهم في البيع بالسعر القديم رغم تحسّن سعر الصرف، فهو عمليًا يتربّح من معاناة الناس، ويشارك في تدمير ما تبقى من استقرار اقتصادي في البلاد.
رابعًا: المواطن.. الحلقة الأضعف في المعادلة
في اليمن، المواطن هو دائمًا الطرف المهزوم في أي معادلة اقتصادية. حين ترتفع الأسعار، هو أول من يتضرر. وحين تتحسّن مؤشرات الاقتصاد، يكون هو آخر من يستفيد – إن استفاد أصلًا. هذه المعادلة الظالمة تكرّست بفعل فوضى السوق، وغياب المؤسسات، وتحوّل الدولة من راعية إلى متفرجة. المواطن اليوم لا يبحث عن مؤشرات فنية أو تحليل اقتصادي، بل يبحث عن كيس دقيق أرخص، وقارورة زيت بسعر معقول، ودواء متوفر في الصيدلية.
في ظل الغلاء المستفحل، يعيش كثير من اليمنيين على وجبة واحدة يوميًا، والبعض بات يضطر لبيع ممتلكاته الأساسية من أجل البقاء. ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأجور النقل، والأدوية، والوقود، جعل حياة الناس في جحيم مستمر، وتحسّن سعر الصرف، الذي يُفترض أنه بوابة لانفراجة معيشية، لا يزال عاجزًا عن كسر هذه الدائرة الجهنمية.
الرواتب لم ترتفع، القوة الشرائية ضعفت، والأمل تآكل. وإذا لم تتغير هذه المعادلة قريبًا، فستتحول الأزمة الاقتصادية من أزمة معيشية إلى أزمة وجودية تهدد بقاء الناس في مدنهم، وتدفعهم إلى الهجرة أو الانفجار الاجتماعي.
خامسًا: دور الإعلام والمجتمع المدني.. هل يصبح "المواطن هو الرقيب"؟
في ظل العجز الحكومي، برزت مبادرات شعبية يقودها الصحفيون والناشطون، وأشهرها حملة "صوّر وانشر" التي أطلقها الصحفي فتحي بن لزرق. الحملة تدعو المواطنين لتوثيق المحلات التي تواصل البيع بالأسعار القديمة رغم انخفاض الصرف، ونشر الصور والأسماء علنًا. هذه المبادرة دفعت بعض التجار إلى التراجع، ولو مؤقتًا، وخلقت أجواء من الضغط الشعبي الذي افتقدته الدولة.
لكن هذا الشكل من الرقابة الشعبية لا يمكن أن يكون بديلًا عن دور الدولة. فالمواطن لا يملك صلاحيات، ولا أدوات تنفيذ، ولا سلطة قانونية. ما يقوم به اليوم هو بدافع الغضب والدفاع عن نفسه، لا عن دور مؤسسي. إذا أرادت الحكومة أن تتفاعل بجدية مع هذا الحراك، فعليها أن تحتضنه، وتحوّله إلى قوة منظمة، تدعمها بحملات رسمية ومذكرات ضبط وربط.
إن الإعلام لا يجب أن يكتفي برصد الظواهر، بل عليه أن يفضح المسؤولين المتقاعسين، ويكشف التجار المتلاعبين، ويكون لسان حال المواطن أمام دولة صمّاء. أما المجتمع المدني، فعليه أن يتحول إلى قوة ضغط من أجل سن قوانين تحمي المستهلك، وتمنع الاحتكار، وتُجرّم البيع غير العادل.
سادسًا: الحلول الممكنة.. ما الذي يجب فعله الآن؟
الحلول معروفة، وليست معجزة. المطلوب فقط إرادة سياسية، ونية صادقة للقيام بالإصلاح. أول خطوة هي إصدار تسعيرة رسمية يومية للسلع الأساسية، تتغير بحسب سعر الصرف، وتُلزم بها جميع المحلات. ثانيًا، إطلاق فرق رقابة تموينية ميدانية، تملك صلاحية الإغلاق والغرامة والمصادرة، وتعمل دون خوف أو تدخل من التجار النافذين.
ثالثًا، يجب إشراك غرف التجارة والقطاع الخاص في نقاش وطني شفاف، يحدد قواعد اللعبة الاقتصادية بوضوح. لا يمكن ترك السوق يعمل وفق أهواء البعض، دون إطار قانوني عادل. كما يجب على الحكومة إعادة النظر في سياسة الضرائب والجمارك التي تُضيف أعباء على المواطن.
يُضاف إلى ذلك ضرورة إصلاح المؤسسات الرقابية، وتطهيرها من الفساد، وتفعيل القضاء الاقتصادي. كما ينبغي وضع خطة عاجلة لدعم المنتجات المحلية، وتقليل الاعتماد على الواردات، وتحفيز المستثمرين الجادين.
كلمة اخيرة
التحسّن في سعر الصرف فرصة نادرة، لكن إن لم تتحول إلى إجراءات ملموسة، فستضيع كما ضاعت من قبلها العشرات. المواطن اليمني يستحق حياة كريمة، وسوقًا منضبطًا، وسلطة تحميه من جشع الجشعين. أما الاستمرار في هذا العبث، فسيؤدي إلى ما هو أسوأ من الجوع: فقدان الثقة الكاملة بكل شيء.