يشكّلُ الوجودُ والنشاطُ العسكريُّ لـ “الحوثيين” في البحر الأحمر تهديدًا خطيرًا ومتعددَ الأوجه للملاحةِ الدولية والأمنِ الإقليمي وحتى الاقتصادِ العالمي. تصاعدَ هذا الخطرُ بشكلٍ لافتٍ منذ أواخر عام 2023.
وفي آذار/مارس 2025، بدأ القصفُ الأميركي للمناطق الخاضعة لسيطرة “الحوثيين”، وانتهى باتفاقٍ عبر الوسطاء بين الطرفين؛ لكنّ الأوضاعَ في منطقةِ الشرق الأوسط كانت مشتعلةً أصلاً ولا تتّسع لمزيدٍ من الحروب.
إن الأزمةَ اليمنية وما تشهده من تطوّراتٍ محطُّ اهتمامٍ لدى الإدارة الأميركية، وقد كثرت مؤخرًا الأنباءُ عن عزم الولايات المتحدة إقامة قاعدةٍ عسكريةٍ في البحر الأحمر، في محاولةٍ لمحاصرة الوجود “الحوثيّ” وتقليصِ العمليات الإرهابية.
قاعدةٌ أميركيةٌ في بربرة
صرّح رئيس أرض الصومال، عبد الرحمن محمد عبد الله (إرو)، خلال الأيام الماضية، أن “حكومته أقامت علاقاتٍ قويةً مع وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، معربةً عن استعدادها لاستضافة قاعدةٍ عسكريةٍ أميركيةٍ في مدينةِ بربرة الساحلية”.
وفي مقابلةٍ مع “بلومبرغ”، أكد إرو أن أرضَ الصومال مستعدةٌ لتقديم صفقةٍ إلى الولايات المتحدة بشأن الموارد المعدنية الحيوية، لا سيما الليثيوم، كجزءٍ من جهودها لنيل الاعتراف الدولي. ورغم إقراره بأن الاعتراف يظلُّ على رأس أولويات أرض الصومال، شددَ على ضرورة التعاون مع المجتمع الدولي في المصالح المشتركة، بما في ذلك الأمن والتجارة ومكافحة الإرهاب والقرصنة والاتجار بالبشر.
وقال: “إذا كانت الولايات المتحدة مهتمةً بإنشاء قاعدةٍ عسكريةٍ في أرض الصومال، فنحن نرحبٌ بذلك”، مضيفًا استعداده لمنح الولايات المتحدة إمكانيةَ الوصول إلى احتياطيات الليثيوم.
وكشف إرو عن خطط لزيارةٍ رسميةٍ إلى الولايات المتحدة لمناقشة التعاون الثنائي الأوسع، موضحًا أن اعترافَ واشنطن بأرض الصومال ليس شرطًا أساسيًا للاتفاقيات المرتقبة، وقال: “الاتفاقيات التي نسعى إلى إبرامها مع الولايات المتحدة ليست مشروطةً بالاعتراف، لكننا نعتقد أن هذا التعاون سيعزّز التفاهم وحسن النية”.
من ناحيةٍ أخرى، أفادت مصادرُ مطلعةٌ أن الولايات المتحدة تدرس الاعتراف الجزئي بأرض الصومال مقابل السماح بإنشاء قاعدةٍ بحريةٍ قرب ميناء بربرة. وأكدَ مسؤولٌ أميركيٌّ أن إدارةَ ترامب بدأت مناقشاتٍ مع قيادة أرض الصومال حول اتفاقٍ محتملٍ يمنح أرضَ الصومال اعترافًا دبلوماسيًا رسميًا، وإن كان محدودًا، مقابل وصولٍ عسكريٍّ إلى الميناء الاستراتيجي المطلّ على البحر الأحمر.
وبحسب صحيفةِ “فاينانشال تايمز”، قال مسؤولٌ أميركيٌّ مطلعٌ على الاتصالات الأولية بين واشنطن ورئاسة أرض الصومال إن المناقشات بدأت بشأن اتفاقٍ للاعتراف بدولةٍ فعليةٍ مقابل إنشاء قاعدةٍ عسكريةٍ قرب ميناء بربرة على ساحل البحر الأحمر.
ضغوط الصومال على واشنطن
أعلنت أرض الصومال استقلالها عن الصومال عام 1991، وسعت منذ ذلك الحين إلى نيل اعتراف دولي. ورغم استقرارها وحكمها الرشيد، لم تحظَ باعتراف الأمم المتحدة أو غالبية القوى العالمية. إذا اعترفت الولايات المتحدة بأرض الصومال مقابل إنشاء قاعدة عسكرية، فستكون هذه خطوةً مهمةً لإضفاء الشرعية على الجمهورية المعلنة من جانب واحد، مما يفتح الباب أمام الاعتراف الدولي والاستثمار.
كثّفت أرض الصومال في واشنطن جهودَ الضغط على المشرّعين لدعم التزام الولايات المتحدة بسيادتها. وتواصل دبلوماسيون صوماليون مع شخصياتٍ بارزةٍ في وزارة الخارجية و”الكونغرس” لتعزيز شرعيتها الدولية. ولطالما تجنّبت واشنطن الاعتراف بأرض الصومال، متذرّعةً بحساسياتٍ دبلوماسيةٍ مع مقديشو التي تدّعي السيادة على هذه الجمهورية.
تعمل الولايات المتحدة حاليًا مع الحكومة الصومالية الفيدرالية لمحاربة مسلحي “حركة الشباب” وتنظيم “داعش”، وقد يعرّض الدعم العلني لأرض الصومال هذا التحالف للخطر. كذلك تشعر بعض العشائر في المناطق الشرقية من أرض الصومال بانتماء أقوى إلى الصومال الموحد منه إلى حكومة هرجيسا، ما يشير إلى انقساماتٍ داخليةٍ قد تستغلّها سلطات أرض الصومال.
أضافت اتفاقية الموانئ الأخيرة بين إثيوبيا وأرض الصومال بعدًا جديدًا إلى الديناميات الإقليمية. ففي كانون الثاني/يناير 2024، وقّعت أرض الصومال اتفاقيةً مع إثيوبيا تمنحها حقّ الوصول إلى ميناء بربرة مقابل اعترافٍ محتمل، فأثارت هذه الخطوة أزمةً دبلوماسيةً مع الصومال المركزي.
قد ترى واشنطن في ذلك فرصةً لإضفاء طابعٍ رسميٍّ على وجودها في المنطقة. ويُبرز هذا التطورُ شبكةَ التحالفات والتنافسات المعقّدة في القرن الإفريقي، حيث تتقاطع المصالح الاستراتيجية مع المطالبات التاريخية لتقرير المصير.
يرى المراقبون أن هذه الصفقة تمثّل للولايات المتحدة فرصةً لتعزيز حضورها في منطقةٍ جيوسياسيةٍ متنامية. ومع توسّع نفوذ الصين في إفريقيا، قد تعتبر واشنطن قاعدةَ بربرة ثقلًا استراتيجيًا موازنًا، يعزز قدرات المراقبة في شبه الجزيرة العربية والمناطق المحيطة بها.
محاصرةُ التواجد الحوثي
لا تُعَدُّ خطوةَ سعيِ الولايات المتحدة إلى إنشاء قاعدةٍ عسكريةٍ في أرض الصومال سوى مرحلةٍ في استراتيجيةِ واشنطن لمحاصرةِ الأعمال الإرهابيةِ لـ”الحوثيين” في البحر الأحمر. فماذا يعني وجودُ قاعدةٍ أميركيةٍ هناك بالنسبة لجماعة “الحوثي”؟
يشكّلُ إنشاءُ قاعدةٍ في بربرة بأرض الصومال دلالاتٍ استراتيجيةً وعسكريةً عدّة، أهمها أن بربرة تقع على خليج عدن بالقرب من مضيق باب المندب، الممرّ الملاحي الحيويّ الذي يربطُ البحر الأحمر بالمحيط الهندي، فتتيحُ القاعدةُ مراقبةَ وتحكّمَ حركة الملاحة عبر المضيق، وهو ما يُعَدُّ نقطة ضعفٍ رئيسيةٍ لـ”الحوثيين” القائمين على هذا الممر لشنِّ هجماتهم.
كما توفّر القاعدةُ منصةً إضافيةً لشنّ ضرباتٍ جويةٍ ولإطلاقِ طائراتٍ مسيرةٍ للمراقبة، ونشرِ قواتٍ بحريةٍ بشكلٍ أسرعَ وأكثرَ فاعليةٍ، ما يقلّصُ اعتمادَ واشنطن على القواعدِ النائية أو حاملاتِ الطائرات. ومع وجود قواعد أميركيةٍ على جانبي المضيق، سيجد “الحوثيون” أنفسهم محاطين بوجودٍ عسكريٍّ مكثف، ما يحدُّ بشدّةٍ من قدرتهم على المناورةِ وشنِّ الهجمات، ويصعّبُ إيصالَ الإمدادات والدعم عبر البحر.
علاوة على ذلك، قد ترى دولٌ في المنطقة—كالإمارات التي تديرُ جزءًا من ميناء بربرة—هذا الوجودَ تعزيزًا للاستقرار والأمن البحري، في حين قد يعتبره خصومٌ كإيران تصعيدًا إضافيًّا.
ويقول صالح أبو عوذل، رئيسُ مركزِ “اليوم الثامن” للإعلام والدراسات، في حديثٍ مع “الحل نت”: “تأسيسُ قاعدةٍ أميركيةٍ قربَ مضيق باب المندب تطورٌ جيوسياسيٌّ بالغُ الأهمية، يعكسُ إدراكَ واشنطن المتأخرَ لتهديدات الحوثيين المتصاعدة للملاحة الدولية”.
القاعدةُ العسكريةُ والدلالات الاستراتيجية
يرى توماس وولف، المحلل السياسي في مركز أبحاث “تيفا” الكيني، أن إنشاءَ قاعدةٍ أميركيةٍ في بربرة سيمكنُ الولايات المتحدة من مراقبة تجارة الأسلحة والأنشطة العسكرية الصينية في جيبوتي، وتحركات “الحوثيين” في اليمن. وأضاف وولف أنَّ الموقعَ الاستراتيجيَّ لأرض الصومال يجعلها أولويةً لدى الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب.
ومن جهته، يقولُ الدكتور يوسف مرعي، الباحثُ في العلاقات الدولية، في حديثٍ مع “الحل نت”: إنَّ إنشاءَ قاعدةٍ أميركيةٍ في أرض الصومال وحده لا يكفي لهزيمة “الحوثيين”، لكنه قد يساهمُ في الحدّ من قدراتهم البحرية. كما أنَّ تعزيزَ الضغط العسكري والاستخباراتي سيدخلهم في حالةِ ردعٍ دائمٍ تجعلُ أيّ مغامرةٍ من جانبهم مكلفةً للغاية.
وعند ربطِ القاعدةِ بجهودِ تنسيقٍ إقليميٍّ مصغّرٍ يضمّ دولًا مطلةً على البحر الأحمر، ودعمًا لقواتٍ يمنيةٍ محليةٍ في الساحل الغربي، فقد تصبحُ القاعدةُ جزءًا محوريًا في خنق “الحوثيين” بحريًّا، ما يشكلُ أحد مفاتيح حسم المعركة.
ورغم أنَّ “الحوثيين” ليسوا بمنأى عن الهزيمة، فهم يدركون ظروفَ الحروب الحديثةَ جيدًا، وتتمثلُ قوتهم في عاملَي غلبةِ عدمِ التكافؤ والجغرافيا، إضافةً إلى صبرٍ استراتيجيٍّ ومشاريعَ متنوعةٍ لخصومهم المحليين.
ولتغييرِ هذه المعادلة، صارَ من الضروري على الجهاتِ الفاعلةِ الدولية والإقليمية الانتقالُ من العملياتِ العسكريةِ البحريةِ الدفاعيةِ إلى اعتمادِ استراتيجياتٍ هجينةٍ استباقيةٍ، كإعادةِ الاستثمارِ في الجهد البشري الاستخباراتي والشراكات الإقليمية. كذلك يبدو أن واشنطن تسعى إلى تشكيلِ تحالفٍ إقليميٍّ مصغّرٍ يتيحُ بناءَ نموذجٍ عملياتيٍّ مرنٍ تكتيكيا ومتوافقٍ سياسيًا لتقاسمِ الأعباء، مستندًا إلى قدراتِ الردع الأميركية في البحر الأحمر وخليج عدن. وحتى ذلك الحين، سيستمرُّ التهديدُ “الحوثيُّ” ليس لأنَّهم أقوياء فحسب، بل لأنّ النظامَ المصممَ لمواجهتهم يهيّء لنوعٍ مختلفٍ من الحروب.
بشكل عام، يعزّزُ وجودُ قاعدةٍ أميركيةٍ في بربرة القدراتِ الأميركيةَ لمواجهةِ التهديدات في البحر الأحمر وخليج عدن، ما يضعُ ضغطًا أكبرَ على “الحوثيين” ويحدُّ من قدرتهم على التأثير في الملاحة الدولية.