لم يبدأ المشهد من فراغ. فبعد تحسّن سعر الصرف، تحرّكت الهيئة العامة للأدوية في عدن بخطوة مطلوبة شعبيًا: مراجعة أسعار الدواء وخفضها بما يواكب الواقع النقدي الجديد. كانت تلك، نظريًا، لحظة اختبار لسلطة الدولة على واحد من أكثر الأسواق حساسية. لكن، وما إن فُتح الباب أمام “التخفيض”، حتى تسلّلت إليه هندسة سعرية معكوسة قادتها بعض وكالات الاستيراد: أرسلت ملفات تسعير ضخمة –نحو 1200 صفحة– صيغت بشكلٍ أحادي خلال أيام قليلة، وبأسعار ابتدائية مرفوعة فوق الواقع. هكذا تم نقل ساحة الاشتباك من مبدأ “التكلفة + هامش عادل” إلى لعبة “ارفع كثيرًا… لتُظهر لاحقًا أنك خفّضت”، فتتحول المبادرة الحكومية إلى مسرحيةٍ بديكورٍ رسمي، ويخرج المواطن من الصالة بفاتورةٍ أثقل ممّا دخل بها.
تفاصيل اللعبة تكشف جوهر الخلل. مثال واحد يكفي لتشريحها: دواء شائع للحمّى كان يباع بـ 3,000 ريال عندما كان صرف الريال السعودي 750 ريالًا يمنيًا. ظهر الدواء نفسه في الكشوفات المقدَّمة للهيئة بسعر 4,700 ريال. على طاولة التفاوض، وبعد يومٍ كامل من شدّ وجذب، انتهت “النتيجة السعيدة” إلى 3,500 ريال، فبدا وكأن الدولة انتزعت 1,200 ريال تخفيضًا. لكن الحقيقة أن السعر النهائي صار أعلى بـ 500 ريال من سعره السابق. أي أننا أمام تخفيضٍ ورقي تموضع فوقه ارتفاعٌ فعلي. الأخطر من ذلك أن بعض التخفيضات طالت أدوية لا تُستورد أصلًا منذ 15 عامًا؛ أي أن القوائم حملت “خفضًا” على أصناف غائبة من السوق، لتتضخم وهمية الإنجاز ويضمحل أثره الحقيقي على حياة الناس.
سياسيًا، ما حدث يعيد إنتاج معضلة الثقة. إذ كيف تُقنع الناس بأن الدولة قادرة على ترجمة التحسّن النقدي إلى مكاسب معيشية إذا تحوّلت أدواتها التنظيمية إلى ممراتٍ مفتوحة للتلاعب؟ إن المبادرة الحكومية كانت في أصلها على الطريق الصحيح: ضبط الفواتير، مواءمة الأسعار مع الصرف، كبحُ الاحتكار. لكن انتقال المبادرة من منطق “كشف التكلفة وتحديد الهوامش” إلى منطق “استلام جداول مُعلّبة” أفقدها روحها. هنا لا نتحدث عن خطأ تقني، بل عن فشلٍ مؤسسي في تصميم العملية: من يضع نقطة الانطلاق؟ ما مصادر التحقق؟ أين معادلة التسعير؟ ومن يراجع الأصناف من حيث التوفّر والاستيراد الفعلي؟ بلا إجاباتٍ واضحة، تصبح أي قوائم مُمهورة بالأختام مجرد أوراقٍ جميلة تُسوّق “تخفيضًا” وتنتج غلاءً.
اقتصاديًا وصحيًا، انعكاس المسرحية قاسٍ. الدواء هو البند الأقل قابلية للتأجيل في سلة الأسرة: قلب، سكري، ضغط، مضادات حيوية، أدوية أطفال. إبقاء الأسعار أعلى من المستوى الذي يتيحه الصرف يُفرغ التحسّن النقدي من محتواه، ويُبقي التضخم البنيوي مُمسكًا برقاب الفقراء. والأسوأ أن “تشريع” تخفيضات وهمية يفتح شهية الأسواق الأخرى لتكرار التجربة: ارفع أولًا، خفّض على الورق ثانيًا، احتفظ بالهامش ثالثًا. بهذه الطريقة، تُجهض موجة الإصلاح من الداخل، ويُعاد إنتاج حلقة الشكّ: “لا شيء يتغيّر”. عندها لا يعود الملف ملف دواء فقط، بل اختبار شرعية: هل بمقدور الدولة حماية المستهلك عندما تتقاطع مصالح المال مع هشاشة الرقابة؟
إنصافًا للحقيقة، لا يكفي لوم الوكالات وحدها؛ فهذه هو طبيعتها إن غابت القواعد. المسؤولية هنا على التصميم المؤسسي: لو أن المسار انطلق من فاتورة استيراد (CIF) مُلزِمة، وأجور نقل مُثبتة بلا “تحاسِين” وجبايات، ومعادلة تسعير شفافة تربط السعر بسعر الصرف المرجعي من البنك المركزي، وهوامش ربح معلنة عبر سلسلة (وكيل/موزّع/صيدلية)، لما وجدت الأسعار الورقية منفذًا. ولو فُرزت القوائم لاستبعاد أصنافٍ غير متوفرة/غير مستوردة لما مرّ “خفضٌ” لأدويةٍ بلا وجود. الفكرة بسيطة: ابدأ من الواقع المُسنَد بالأدلة، لا من جداول يكتبها اللاعبون أنفسهم ثم يُطلب من الدولة التوقيع أسفلها.
ما العمل الآن؟ البداية بتصحيح “نقطة الصفر”. أولًا: تجميد القوائم محل الجدل والعودة مؤقتًا لسقف الأسعار السابق، ريثما تُستكمل مراجعة مهنية. ثانيًا: أمر إفصاح ملزم للوكالات عن فواتير الشراء، التأمين، الشحن، التخليص، النقل الداخلي، تواريخ إدخال المخزون، وكميات الأصناف قيد التوزيع. ثالثًا: تشكيل لجنة تسعير مستقلة (صحة + مالية + مركزي + رقابة + أكاديميون + نقابة صيادلة) تعتمد معادلة تسعير تُحدَّث دوريًا وفق الصرف، وتستبعد كل صنف غير مستورد فعليًا. رابعًا: منصة علنية يومية تنشر أسعار 200–300 صنف حيوي وربطها آليًا بسعر الصرف، مع خط بلاغات لاستقبال فواتير المواطن والصيدليات ومكافأة المُبلّغين الجادّين. خامسًا: عقوبات متدرجة تصل إلى تعليق الترخيص، فالشطب النهائي عند التلاعب المنهجي.
لكن التدخل الفني وحده لا يكفي بلا حماية حكومية للانسياب: إلغاء الجبايات غير القانونية على مسارات النقل (التحاسِين)، ضبط رسوم المنافذ، وتسهيل فتح الاعتمادات للدواء بسعر صرف مرجعي شفاف يَظهر في “المعادلة”. وفي الأفق المتوسط، فتح باب المنافسة المنضبطة عبر تسريع تسجيل بدائل جنيسة معتمدة الجودة، وتفعيل مناقصات شراء جماعي للأصناف المزمنة لخفض الكلفة على الدولة والمجتمع. كل هذا يجب أن يُسند بتقارير أسبوعية تُعلن نسب الالتزام، وعدد المخالفات، ومتوسطات الأسعار، كي يستعيد الناس قناعة بسيطة: ما يُعلن يُنفّذ.
يبقى البُعد الأخلاقي: إن تمرير تخفيضات وهمية على أدويةٍ لا تُستورد منذ 15 عامًا ليس مجرد خطأ إجرائي؛ إنه تضليلٌ صريح. فمن واجب الحكومة اليوم أن تُعيد الاعتبار لمبادرتها الأصلية، لا بالتبرير، بل بالاعتراف والثبات: نعم، تم استغلال المسار؛ نعم، سنُعيد بناءه على أسسٍ مهنية؛ نعم، سنُحاسِب. هذا هو الفارق بين دولةٍ تُخطئ فتُصلِح، ودولةٍ تُخطئ فتُغطي. أما المواطن الذي صبر على الجوع والمرض، فلا يطلب ترفًا؛ يطلب أن يرى أثر تحسّن الصرف دواءً ميسورًا، لا عنوانًا دعائيًا. وإذا كانت البداية مبادرة من الهيئة العامة للأدوية، فإن واجب الساعة أن لا تُترك المبادرة فريسةً لأوراقٍ صنعتها المصالح، بل أن تُستعاد بمنهجٍ يُحَكِّم الدليل على الادّعاء، والمصلحة العامة على الشطارة الخاصة.
الخلاصة مباشرة لا مواربة فيها: الأسعار صارت أغلى لأن “التخفيض” انطلق من سقفٍ مُختلق. الحل معروف: أعيدوا نقطة الانطلاق إلى التكلفة الحقيقية، واكسروا الحلقة بافتراضٍ معاكس: كل رقم بلا مستند مرفوض، وكل قائمة بلا استيراد فعلي ملغاة، وكل تلاعبٍ مُثبت مُعاقَب. عندها فقط، تتحول مبادرة الهيئة من مسرحيةٍ مُحبِطة إلى نقطة انعطاف تُثبت أن الدولة قادرة على حماية حياة الناس… لا على التصفيق لورقٍ يرفع أسعارها.