لم تعد محافظة إب، وسط اليمن، تنام على هدوء أو تستيقظ على أمل. فمنذ أكثر من شهرين، تشهد المحافظة واحدة من أوسع موجات الاعتقال والاختطاف التي تنفذها مليشيات الحوثي بحق معلمين وأكاديميين وأطباء ووجهاء اجتماعيين. حملات منظمة لا تستثني النخب الفكرية والثقافية والدينية، وتعيد إلى الأذهان صورة مدينة تختنق تحت حصار الخوف والتكميم.
حملة ممنهجة لا عشوائية
بحسب منظمات حقوقية محلية ودولية، تجاوز عدد المختطفين خلال الأسابيع الأخيرة 95 شخصًا، معظمهم من التربويين والأكاديميين والشخصيات الاجتماعية. لم تكن هذه الحملة عشوائية، بل اتسمت بالانتقائية الدقيقة. فقد استهدفت أسماء ووجوهًا تحظى باحترام واسع، مثل الدكتور عبدالملك إسكندر، والأستاذ محمد منصور اليفرسي، والأستاذ عبدالواحد آل قاسم، إلى جانب خطباء مساجد وموظفين في القطاعين العام والخاص.
يقول مراقبون إن تغييب هذه الرموز يهدف إلى ضرب النسيج الاجتماعي وإضعاف أي موقف جماعي مناهض للجماعة. إنها سياسة "قطع الرأس" التي تستهدف العقول قبل الأجساد، والمكانة قبل الأشخاص.
أسر تائهة في المجهول
الصدمة الأكبر تقع على عاتق الأسر. زوجات وأبناء يعيشون بين القلق واليأس، بلا خبر ولا تواصل، وكأن المختطفين ابتلعتهم الأرض. إحدى بنات المختطف صديق العباب كتبت على منصات التواصل:
"هل من الطبيعي أن يختفي أب لشهرين بلا أثر؟ كيف نقضي ليالينا في مدينة غريبة بلا سند؟"
شقيق نشوان الحاج نشر علي صفحته في فيسبوك متألم بوجع كبير غياب شقيقه نشوان منذ شهور دون معرفة مصيره مستذكراً شخصية اخيه ودوره الكبير فى الاسرة فهو العائل الوحيد لوالديه وزوجته واطفاله.
آثار كارثية على التعليم والمجتمع
تؤكد تقارير حقوقية أن استهداف التربويين في إب يشكل ضربة قاصمة للعملية التعليمية، حيث يجري إقصاء الكفاءات وإحلال عناصر موالية للحوثيين، مع فرض مناهج مشبعة بالأفكار الطائفية. وهو ما يهدد بتفخيخ وعي الأجيال القادمة وتغيير هوية التعليم من رسالة وطنية إلى أداة أيديولوجية.
على المستوى الاجتماعي، خلّفت الاعتقالات آثاراً اقتصادية قاسية، إذ فقدت أسر المختطفين معيلها الأساسي، وعجزت بعض العائلات عن دفع إيجارات المنازل أو تأمين احتياجاتها اليومية، لتتضاعف المعاناة في محافظة مثقلة أصلًا بالفقر والحرمان.ع
أصوات رسمية وحقوقية
وزير الإعلام معمر الإرياني فى تصريح سابق له وصف الحملة بأنها "جزء من سياسة ممنهجة لتكميم الأفواه وإحكام السيطرة على المحافظة"، فيما أكد محافظ إب اللواء عبدالوهاب الوائلي أن هذه الاعتقالات تعكس "حالة ذعر لدى المليشيات من تصاعد الرفض الشعبي"، لكنها في الوقت نفسه تعكس ضعف الاستجابة الرسمية التي لم ترقَ لمستوى الكارثة.
الكاتب والمحلل السياسي عادل الأحمدي اعتبر أن اختيار إب لم يكن صدفة، بل لأنها "مركز تاريخي للمقاومة والتنوير الوطني"، مشيرًا إلى أن استهدافها يأتي في إطار خطة لإخماد أي جذوة مقاومة فكرية أو اجتماعية.
في المقابل، عبّر ناشطون حقوقيون مثل إبراهيم عسقين ورياض الدبعي عن قلقهم من تحوّل إب إلى "مختبر للترهيب الجماعي"، مؤكدين أن المجتمع الدولي بصمته يُمكّن الحوثيين من التمادي في جرائمهم.
لماذا إب؟ ولماذا الآن؟
تكتسب إب أهمية استراتيجية كونها خزانًا بشرياً كبيراً، وممراً جغرافياً حيوياً إلى جانب دور أبنائها التاريخي في الدفاع عن الجمهورية. لذلك، وفق المحللين، فإن الحوثيين يسعون إلى "كسر إرادة إب" عبر تغييب نخبها، حتى تظل المدينة تحت السيطرة بلا صوت معارض.
صمت دولي مقلق
رغم بيانات الإدانة التي صدرت عن بعض المنظمات الحقوقية، فإن غياب خطوات عملية ضاغطة جعل الحوثيين أكثر جرأة في ارتكاب الانتهاكات. "مناطق سيطرة الحوثيين تحولت إلى سجون مفتوحة"، كما وصفتها رابطة حقوقية يمنية، لكن العالم ما زال يتفرج.
. إب بين مطرقة الحوثي وصمت العالم
إب اليوم ليست مجرد مدينة يمنية، بل صورة مكثفة لمعاناة شعب بأكمله: نخبه تُختطف، حرياته تُصادر، وصوته يُكمم. في ظل صمت رسمي وخذلان دولي، يظل مصير العشرات من الأكاديميين والمعلمين مجهولاً، وأسرهم تائهة في انتظار خبر يبدد الظلام.
ويبقى السؤال: إلى متى سيظل العالم يتعامل مع مأساة إب كخبر عابر، بينما تتحول المحافظة إلى مختبر قمع ومدينة تبتلعها الإعتقالات؟