آخر تحديث :الأحد-07 سبتمبر 2025-02:01م
ملفات وتحقيقات

تحليل موسع للمقدمة والفصل الأول من كتاب: دون مجد في جزيرة العرب - الإنسحاب البريطاني من عدن.

الأحد - 07 سبتمبر 2025 - 11:08 ص بتوقيت عدن
تحليل موسع للمقدمة والفصل الأول من كتاب: دون مجد في جزيرة العرب - الإنسحاب البريطاني من عدن.

الجزء الاول

تحليل موسع للمقدمة والفصل الأول من كتاب: دون مجد في جزيرة العرب - الإنسحاب البريطاني من عدن.

المؤلفون:

- بيتر هينشكليف، - جون تي. دوكر، - ماريا هولت.

الترجمة إلى العربية: م/فضل علي مندوق


أسس الأزمة وسياقات الانهيار

المقدمة: استهلال تراجيدي وانزياح عن السردية الإمبراطورية

المقدمة لا تكتفي بعرض الكتاب، بل ترسم إطارًا تراجيديًّا للأحداث، مبتدئة بمشهد الوداع المهين في 29 نوفمبر 1967. هذا المشهد ليس مجرد وصف، بل يمثل استعارة كبرى لنهاية الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط. اختيار المؤلفين لعبارة السير هومفري تريفليان الشهيرة: "غادرنا دون مجد لكن دون كارثة"، يضع القارئ أمام مفارقة واضحة: كيف يمكن لانسحاب أن يكون "غير مجيد" لكنه "غير كارثي" في الوقت نفسه؟ هذه المفارقة هي محور الكتاب، إذ يتناول كيفية إدارة الفشل بحيث جرى تحويله من مأساة كاملة إلى فشل مخزٍ فقط.

المنهجية وتعددية المصادر:

تؤكد المقدمة على تنوع المنهجيات التي اعتمد عليها المؤلفون:

التاريخ الشفوي:

وهو المشروع الرئيس لماريا هولت، حيث جُمعت شهادات البريطانيين واليمنيين معًا. هذا النهج أضاف تفاصيل إنسانية، وكسر احتكار الرواية الرسمية، مقدّمًا "تاريخًا من الأسفل" يُظهر كيف عايش الناس العاديون تلك التحولات العاصفة.

الوثائق الأرشيفية الرسمية:

مأخوذة من الأرشيف الوطني في لندن ومراكز أخرى، والتي تكشف التخبط الذي رافق صناعة القرار في لندن.

المذكرات الشخصية واليوميات:

أبرزها يوميات روبن يونغ، التي تكشف عن صورة غير مزخرفة لواقع الإدارة اليومية، وما واجهه المسؤولون الميدانيون من خيبات أمل.

هذا التداخل بين "التاريخ من الأعلى" (الوثائق الرسمية) و"التاريخ من الأسفل" (التاريخ الشفوي) هو ما يمنح الدراسة عمقًا خاصًا، ساعية إلى تقديم رواية متوازنة بعيدة عن التبسيط.

إشكالية المصطلح:

"الانسحاب" أم "التراجع" أم "الهزيمة"؟

المؤلفون اختاروا مصطلح "التراجع" (Retreat) بعناية. فهو مصطلح عسكري يوحي بالانسحاب تحت الضغط، ويُعدّ أكثر دقة من "الاستقلال" الذي يفترض نقلًا منظّمًا للسلطة، كما أنه أقل حدة من "الهزيمة" التي قد تثير الجدل. هذا الاختيار اللغوي يعكس موقفًا نقديًّا وواقعيًّا تجاه الحدث.

تحليل الفصل الأول:

التشريح الجيوسياسي والدستوري لفشل مُعلَن

الفصل الأول، الذي كتبه جون تي دوكر، يقدم تحليلًا عميقًا للبنية الجيوسياسية والدستورية لجنوب الجزيرة العربية، مبرزًا أن هذه التركيبة جعلت الانهيار أمرًا شبه محتوم.

أولًا: التكوين الجيوسياسي المعقد – إرث من التجزئة

يصف الفصل الكيان الهش الذي حاولت بريطانيا التحكم فيه:

مستعمرة عدن:

اعتُبرت "مندمجة بالكامل في الاقتصاد العالمي". كانت عدن ميناءً كوسموبوليتانيًّا، يعتمد على الخدمات اللوجستية للملاحة وتكرير النفط عبر مصفاة صغيرة لشركة بريتيش بتروليوم. مجتمعها ضم مزيجًا متنوعًا من العدنيين الأصليين، واليمنيين القادمين من الشمال (غالبًا من الطائفة الشافعية بخلاف الزيدية السائدة في شمال اليمن)، والصوماليين، والهنود، واليهود، والبريطانيين. هذا التعدد خلق تضاربًا في الهويات، حيث شعر العدنيون الأصليون بأن موجات الهجرة تهدد امتيازاتهم.

المحميات:

وهي كيانات قبلية متنافرة يحكمها سلاطين ومشايخ مرتبطون بمعاهدات حماية مع بريطانيا. وقد فُرِّقت إلى قسمين:

المحمية الغربية:

أكثر فقرًا وتخلفًا، تضم عشرات المشيخات المتنازعة، وحدودها مع شمال اليمن جعلتها عرضة للتدخلات المستمرة.

المحمية الشرقية:

أكثر استقرارًا، وخصوصًا سلطنة القعيطي في حضرموت التي تميزت بإدارة أكثر تطورًا وبموارد مالية أفضل بفضل تحويلات المهاجرين الحضارم من جنوب شرق آسيا والخليج. هذا التفاوت بين الشرق والغرب كان أحد الأسباب الجوهرية في فشل إقامة اتحاد متماسك.

ثانيًا: إشكالية "الجدارة" أو "الجدوى" كمفهوم مركزي

يبرز دوكر مفهوم "الجدارة" بوصفه معضلة أساسية في التفكير الاستعماري البريطاني بمنتصف القرن العشرين. لندن أرادت التخلص من أعباء الإمبراطورية، لكن بشرط أن تكون الدولة الجديدة قادرة على الاستمرار، أي أن تحافظ على استقرارها الداخلي واستقلالها الخارجي. غير أن جنوب الجزيرة العربية فشل في تلبية هذه الشروط:

سياسيًا:

غياب هوية وطنية موحدة، مع بقاء الولاءات قبلية أو مناطقية أو أيديولوجية (القومية العربية).

اقتصاديًا:

هشاشة اقتصاد عدن لاعتماده على القاعدة العسكرية، في حين أن المحميات لم تكن سوى كيانات تعيش على المساعدات البريطانية وتحويلات المغتربين.

إداريًا:

غياب جهاز إداري فعّال، وبقاء المؤسسات في المحميات ضعيفة ومترهلة.

ثالثًا:معضلة الدمج – الاتحاد المستحيل

يتناول الفصل الأول تجربة إنشاء "اتحاد إمارات الجنوب العربي"، بداية بضم مشيخات المحمية الغربية (1959)، ثم محاولة دمج عدن (1963). لكن المشروع حمل عيوبًا بنيوية:

التمثيل غير المتوازن:

منح المجلس الأعلى لكل كيان عضو مقعدًا متساويًا بغض النظر عن حجمه أو موارده. هذا جعل المشيخات الصغيرة أقوى من حجمها الطبيعي، وقلّص وزن عدن وسلطنات الشرق الكبرى مثل القعيطي.

الخلاف على الهوية:

المشايخ أرادوا اتحادًا يحافظ على امتيازاتهم، بينما طمح العدنيون ونخبهم المثقفة لدولة مركزية حديثة. بريطانيا حاولت إقامة دولة بلا أمة.

الوضع الدستوري المربك:

بعد ضم عدن للاتحاد، ظلت مستعمرة تابعة للتاج البريطاني، في حين كان الاتحاد محمية. النتيجة أن الأمن والنظام في عدن بقيا تحت سلطة بريطانيا لا الاتحاد، وهو ما قوض شرعية الكيان الجديد في أهم مركز حضري.


رابعًا:الصراع على الهوية والتمثيل –الجنسية والانتخابات

تطرّق الفصل إلى قضية الجنسية والانتخاب باعتبارها لبّ الأزمة السياسية. آلاف من المقيمين في عدن من جنسيات مختلفة، حُرموا من التصويت بسبب شرط "مولد الأب أو الجد في عدن". النتيجة كانت خلق طبقة سياسية واضحة من أبناء عدن.

خامسًا: السياق الإقليمي – العاصفة القادمة من الشمال

لم يكن الفشل داخليًا فحسب، بل تزامن مع تحولات إقليمية كبرى: ثورة 1962 في اليمن الشمالي وسقوط الإمامة، بدعم مصري مباشر. هذا غيّر المعادلة:

1- تحوّل اليمن الجمهوري إلى قاعدة دعم ومعارضة للبريطانيين في الجنوب.

2- صعود إذاعة "صوت العرب" من القاهرة، التي غذّت الشارع الجنوبي بخطاب تحريضي متواصل.

سادسًا: الخلاف داخل الصف البريطاني – الإدارة المحلية مقابل لندن

تكشف اليوميات والوثائق عن فجوة واسعة بين المسؤولين الميدانيين في عدن وصناع القرار في لندن. الحاكمون على الأرض، مثل وليام لوس وكينيدي تريفاسكيس، أدركوا منذ أواخر الخمسينيات أن الحفاظ على القاعدة العسكرية إلى الأبد وهم، ودعوا إلى منح عدن حكمًا ذاتيًا أوسع تمهيدًا لانسحاب تدريجي. غير أن لندن، تحت ضغط وزارة الدفاع واستراتيجيتها "شرق السويس"، رفضت هذه المقاربة. يصف دكر هذا الرفض بأنه الخطأ الاستراتيجي الأكبر الذي قطع الطريق على انتقال سلمي منظم للسلطة.

المقدمة والفصل الأول كأساس تراجيدي

تتضافر المقدمة والفصل الأول لتشكيل لوحة متكاملة للأزمة. المقدمة ترسم المشهد الختامي المأساوي في 1967، بينما يكشف الفصل الأول الأسباب الجذرية: سوء التقدير الاستراتيجي، الغرور الإمبراطوري، والواقع الاجتماعي المعقد الذي فاق قدرة بريطانيا على التحكم به. النتيجة أن الخروج من عدن كان فعلًا "دون مجد"، لأنه لم يكن ثمرة تخطيط واعٍ لإنهاء الإمبراطورية، بل سلسلة من الإخفاقات المتراكمة والفرص الضائعة.