آخر تحديث :الخميس-18 سبتمبر 2025-09:32ص
أخبار وتقارير

المحاصصة السياسية.. كيف دمّرت الحكومة الشرعية في اليمن وعطّلت مهام الدولة ومؤسساتها؟

الخميس - 18 سبتمبر 2025 - 08:06 ص بتوقيت عدن
المحاصصة السياسية.. كيف دمّرت الحكومة الشرعية في اليمن وعطّلت مهام الدولة ومؤسساتها؟
عدن/ القسم السياسي – صحيفة عدن الغد


منذ نشوء الحكومة الشرعية في اليمن، كان من المفترض أن تكون أداة لاستعادة مؤسسات الدولة وتحرير الأرض وتحقيق طموحات الناس في حياة أفضل بعد سنوات من الحرب. غير أن الواقع الذي فرضته المحاصصة السياسية بين المكونات المتعددة حولها إلى حكومة عاجزة، أثقلت كاهلها الخلافات الداخلية، وأفقدتها القدرة على الفعل والتأثير. بدلاً من أن تتحول إلى مظلة جامعة لكل اليمنيين، أضحت ساحة صراع بين القوى المتنافسة، وكل طرف يسعى لتثبيت نفوذه عبر الوزارات والمناصب التي حصل عليها وفق اتفاقيات تقاسم لم تراعِ المصلحة العامة بقدر ما كرست نفوذ الأحزاب والجماعات. هذه الصيغة لم تكن مجرد ترتيبات إدارية بل شكلت بذور الانقسام التي مزقت جسد الشرعية وأدخلت مؤسساتها في حالة من الشلل البنيوي.


لقد فرضت المحاصصة واقعًا مشوهًا على بنية الحكومة، فأصبح الوزير يمثل حزبه أو جماعته أكثر من تمثيله لمؤسسات الدولة. القرارات لم تعد تصدر من مجلس وزراء متماسك، بل من توازنات دقيقة تُرضي هذا الطرف وتمنح تنازلات لذاك، وهو ما جعل القرارات النهائية باهتة، غير قادرة على التنفيذ أو الاستمرار. المؤسسات الاقتصادية السيادية كالبنك المركزي تحولت إلى ساحة نفوذ للقوى السياسية، وتعددت شبكات الفساد داخله بفعل الضغوط والتدخلات الحزبية، ما أضعف الرقابة وأفقد الناس الثقة في قدرة الدولة على إدارة مواردها. وبالمثل، بقي القضاء رهينة التدخلات السياسية، حيث أصبحت التعيينات مرتبطة بالولاءات لا بالكفاءة، ما ضرب استقلاله وأفقده قدرته على أن يكون مرجعًا للعدالة.


الأخطر من ذلك كان في القطاع العسكري والأمني، حيث فشلت الحكومة في بناء جيش وطني موحد، وباتت وحداته خاضعة لولاءات حزبية ومناطقية. بعض الأحزاب احتفظت بقواتها الخاصة الممولة خارجيًا، فيما بقيت القوات الرسمية بلا روح جامعة، تعاني من الانقسام والتداخل في المهام. هذا الواقع جعل الحكومة عاجزة عن فرض سلطتها في مواجهة الحوثيين أو ضبط الأمن في المناطق المحررة، فتحولت هذه القوات إلى أدوات صراع أكثر من كونها جدارًا يحمي الوطن. وبهذا المعنى، كانت المحاصصة السياسية بمثابة معول هدم لا يقل خطورة عن الحرب ذاتها، لأنها نزعت من الحكومة القدرة على التماسك الداخلي.


على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، كان المواطن هو الضحية الأولى للمحاصصة. فبدلاً من أن تنشغل الحكومة بإصلاح الخدمات وتثبيت الاستقرار المالي، غرقت في صراعات داخلية حول من يسيطر على وزارة المالية أو النفط أو الموانئ. انعكس ذلك في انهيار قيمة العملة الوطنية وتفاقم عجز البنك المركزي عن السيطرة على السوق. الرواتب توقفت أو صارت تُصرف بشكل متقطع، فيما الخدمات العامة من كهرباء ومياه وصحة وتعليم شهدت تراجعًا حادًا. الناس لم يعودوا يرون في الحكومة سوى واجهة صورية، بينما الواقع على الأرض كان يقول إن مؤسسات الدولة مشلولة، مستنزفة في خدمة مصالح القوى المتقاسمة لها.


المحاصصة أيضًا فتحت الباب واسعًا أمام الفساد، إذ لم يعد الوزير يخضع للمساءلة بقدر ما يخضع لحماية حزبه أو جماعته. كل حزب يرى في الوزارة التي حصل عليها غنيمة يوزع عبرها المناصب على أنصاره ويؤمن من خلالها تمويلًا لنشاطاته، دون النظر إلى مصلحة الدولة أو حاجات المجتمع. هذا الواقع لم يؤد فقط إلى تضخم الجهاز الإداري بعدد هائل من التعيينات غير الضرورية، بل أضاع أي إمكانية لترسيخ مبدأ الكفاءة. أصبحت المؤسسات الحكومية مرتعًا للمحسوبية، وانتهت فكرة الخدمة العامة لصالح فكرة الخدمة الحزبية، حتى صار الانتماء أهم من المؤهل والخبرة.


سياسيًا، المحاصصة قضت على صورة الحكومة أمام الداخل والخارج. المجتمع الدولي لم يعد يرى فيها كيانًا قادرًا على تنفيذ التزاماته، بل كيانًا هجينًا متنازعًا، بالكاد يستطيع أعضاؤه الجلوس معًا على طاولة واحدة. هذا جعل كثيرًا من القرارات المصيرية مؤجلة أو عُطلت تمامًا، لأن الأطراف لم تتمكن من الاتفاق. وفي الداخل، بات المواطن اليمني يشعر أن الحكومة ليست صوته أو ممثله، بل انعكاس لصراع النخب، ما عزز من فقدان الثقة بين الشعب والدولة. هذا الفراغ في الثقة هو ما استغلته الجماعات المسلحة لتعزيز نفوذها، خصوصًا الحوثيين الذين استفادوا من الانقسامات ليظهروا بمظهر الكيان الأكثر تماسكا.


النتيجة النهائية أن المحاصصة السياسية لم تُضعف فقط الحكومة الشرعية، بل قوضت الأسس التي كان يمكن أن تبنى عليها الدولة اليمنية الجديدة. بدلاً من أن تكون أداة لإعادة التوازن وبناء مؤسسات قادرة، تحولت إلى قيد يمنع الدولة من النهوض. المواطن لم يجْنِ من هذه الصيغة سوى تدهور معيشته اليومية، بينما النخب السياسية انشغلت بمكاسب آنية. واستمرار هذه الصيغة يعني أن الانهيار سيظل هو النتيجة المتوقعة، لأن أي حكومة تُبنى على أسس محاصصة ستظل عاجزة عن أن تكون حكومة دولة بحق.


اليوم، ومع مرور سنوات على تجربة المحاصصة، تبدو الحاجة ماسة إلى مراجعة جذرية لهذا النهج. إذا كانت اليمن تريد حكومة قادرة على مواجهة الحوثي وإصلاح الاقتصاد وتحسين حياة الناس، فلا بد من تجاوز هذه المعادلة المدمرة. يجب أن تُبنى الدولة على أساس الكفاءة والنزاهة لا على أساس الولاءات والمحاصصة. وإلا فإن الحكومة ستظل عنوانًا بلا مضمون، والشرعية ستظل قائمة بالاسم فقط، بينما مؤسساتها تستمر في الانهيار. هذه الحقيقة لم يعد بالإمكان إنكارها أو القفز عليها، لأن نتائجها باتت ملموسة في كل تفاصيل حياة اليمنيين اليومية، من رغيف الخبز وحتى استقرار الوطن.