آخر تحديث :الإثنين-29 سبتمبر 2025-04:49م
ملفات وتحقيقات

فتحي بن لزرق.. الصحافي الذي يكتب من وجع الناس (تقرير)

الإثنين - 29 سبتمبر 2025 - 03:23 م بتوقيت عدن
فتحي بن لزرق.. الصحافي الذي يكتب من وجع الناس (تقرير)
تقرير/ عبد العزيز السيافي:

في الطابق الثاني من مقر صحيفة (عدن الغد)، ينهمك الصحافي فتحي بن لزرق كل صباح في النظر إلى شاشة حاسوبه المحمول.

أصابعه تتنقل فوق لوحة المفاتيح بسرعة، كأنها في سباق مع الزمن.

غير أنه، ما إن يسمع وقع خطوات مترددة في صالة الاستقبال، حتى يرفع رأسه ويتوقف عن الكتابة.

هناك، يجلس مواطن بملامح متعبة يحمل ملفا صغيرا وقلقا أكبر، ينتظر دوره ليعرض شكواه.

حينها يغلق بن لزرق جهازه بهدوء، ويستقبل الرجل بكلمات ترحيب، وابتسامة مقتضبة.

هكذا- كما عرفته - اعتاد أن يكون منذ سنوات: صحفيا ينصت أولا، ثم يكتب، وكأن مهمته الحقيقية أن يعطي للكلمة ملامح الناس وأصواتهم.

وليس غريبا أن يشبهه كثير من قرائه بـ"صوت المقهورين"، إذ يجدون في كتاباته صدى لآلامهم اليومية وأحلامهم المؤجلة.


**جذور وهوية

ولد الصحافي فتحي بن لزرق في قرية السلامية بمديرية لودر-محافظة أبين، غير أن انتماءه لم يظل محصورا هناك.

إذ لطالما تحدث " بن لزرق" عن جذوره الممتدة قبليا إلى شبوة، بل إلى تعز التي قضي فيها بعضا طفولته وشبابه قبل أن يتخذ مدينة عدن مقرا لحلمه الكبير "عدن الغد" وموطنا دائما.

كل هذه الجذور الممتدة، منحت شخصية فتحي بن لزرق، صورة مختلفة وأوسع.

وبهذا، بدا كأنه يريد أن يكون "يمنيا شاملا"، يعبّر عن مزيج الهوية أكثر من تعبيره عن جغرافيا محدودة.

هذا الامتداد الجغرافي والاجتماعي لـ "بن لزرق" أسهم في جعله أقرب إلى شرائح اجتماعية وسياسية من شرق البلاد إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.

كما ساعدته هذه الخلفية المتعددة على فهم اختلافات المجتمع اليمني وتعقيداته الاجتماعية والسياسية، وجعلته أكثر قدرة على التعامل مع القراء بلغة جامعة لا إقصائية.


**من حلم صغير إلى منبر واسع

وعندما أسس موقع وصحيفة عدن الغد قبل أزيد من عقد من الزمان، ثم لاحقا إذاعة عدن الغد، لم يكن الهدف مجرد إنشاء وسيلة إعلامية، بل بناء منبر للناس كل الناس.

ومع مرور الوقت، تحول الموقع والصحيفة والإذاعة من نافذة صغيرة إلى منصة واسعة، تكتب عن انقطاعات الكهرباء وأزمات المياه، وتفتح ملفات الفساد والجبايات، وتتابع قضايا البلاد السياسية والاقتصادية، وقضايا الناس كل الناس دون استثناء.

وبذلك، ارتبط اسم "عدن الغد" باسمه، وصارت صورته مقترنة بدور الصحافي الذي يقف مع الشارع لا مع السلطة، مع المواطن لامع النافذين.

وقد اكتسب الموقع، والصحيفة والإذاعة الشعبية الواسعة، لأن هذه المنصات لم تكتفِ بالأخبار الجافة، بل قدمت قصصا وتقارير إنسانية مؤثرة، نقلت معاناة البسطاء بلغة قريبة من قلوبهم.


**محطات فارقة

واجه "بن لزرق" محطات فارقة في مسيرته المهنية، وما مداهمة رجال الأمن مكتبه أمس الأول السبت، واقتياده إلى قسم شرطة إلا آخرها.

ورغم أن الحادثة لم تستغرق سوى ساعات قليلة، إلا أنها رسمت معالم جديدة في صورته.

فقد خرج منها باعتباره رمزا للصحافة الحرة، وكاتبا لا يتردد في الاقتراب من الملفات المحظورة.

لقد كان هذا الاعتقال بمثابة "شهادة غير مكتوبة" على أن الصحافة ما زالت تدفع ثمن جرأتها، وأن الكلمة لا تزال تخيف السلطات أكثر من أي شيىء أخر

يقول" بن لزرق": "إذا كان ذنبي أنني أكتب عن الناس، فأنا مستعد لدفع ثمنه."


**صورة في الإعلام والشارع

من المؤكد أن وسائل الإعلام لا تكتفي بنقل الأشخاص كما هم، بل تعيد صياغتهم وتصنع لهم صورة عامة، إلا في حالة فتحي بن لزرق، فمن صنعه هو قربه من الناس وهموهم، وما وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلا منصات تواصل بينه وبينهم من جهة، وبينهم وبين السلطات المعنية من جهة آخرى.

فالبعض يصفه بـ"الصحافي الحر"، فيما يراه آخرون "المعارض الجريء".

وفي الوقت ذاته، تظهره الصور تارة متعبا، وتارة مبتسما، وتارة أخرى جالسا وسط المواطنين ينصت لشكاواهم.

وهكذا، اجتمعت هذه العناصر لتؤكد أنه لم يعد مجرد صحافي، بل أصبح شخصية عامة لها حضورها الرمزي.

وكلما تكرر اسمه في القضايا العامة، تعززت صورته باعتباره شاهدا وفاعلا في الأحداث، لا مجرد ناقل لها.

**قوة وضعف

وإذا انتقلنا إلى نقاط قوته، سنجد أنها تتمثل في جرأته واستقلاليته النسبية، وكذلك في امتلاكه منابرا خاصة يمكنه من التعبير بحرية أكبر، فضلا عن قربه من قضايا الشارع التي تمنحه شرعية قوية لدى جمهوره.

إلا أن صورته لا تخلو من ثغرات، إذ يرى بعض منتقديه أنه ينجرف أحيانا نحو الإثارة أكثر من التحليل، بينما يعتبره آخرون أسيرا لصورة "المعارض الدائم"، وهو ما قد يحد من قدرته على تقديم خطاب متوازن.

وإضافة إلى ذلك، فإن الضغوط المهنية المستمرة التي يتعرض لها، تضعه باستمرار أمام خطر فقدان مساحة حرية أوسع.

ومع ذلك، فإن هذه الانتقادات لم تمنع اسمه من أن يظل حاضرا في النقاش العام، بل ربما زادت من بريق صورته كصحافي مثير للجدل حاضرا ومستقبلا.


**الحقيقة والثمن الباهظ

في الحقيقة، يعيش فتحي بن لزرق مثل كثير من الصحفيين في اليمن بين مطرقة السلطة وسندان الحاجة إلى نقل الحقيقة. إنه يدرك تماما أن كل كلمة يكتبها قد تكلفه الكثير، ومع ذلك يواصل الكتابة. بالنسبة له، الصحافة الحقيقية لا تعيش بالحياد، بل بالجرأة والمواجهة.

وهذا ما جعله بالنسبة للبعض رمزا عنيدا، وبالنسبة لآخرين مغامرا لا يعرف الحسابات الدقيقة، لكنه في كل الأحوال يظل حاضرا في قلب الحدث.


**ملامح إنسانية

ورغم صرامته المهنية، يخفي بن لزرق وراء قلمه حسا ساخرا وروحا مرحة. فهو يمزح مع موظفيه وزملائه وأصدقائه في مكان العمل والأماكن العامة، غير أنه لا يساوم عندما يضع أصابعه على لوحة المفاتيح.

أما مدينة عدن، فهي بالنسبة له أكثر من مدينة، إنها البيت الأكبر الذي يكتب عنه بشغف ويغضب لأجله، وكأنه لا يتصور نفسه بعيدا عن أزقتها وبحرها وصخبها.

يعرف كل ذلك، كل من أقترب منه، على الرغم من التحديات، ما زال يحتفظ "بن لزرق" بقدرة فريدة على بث الأمل في أحاديثه، وكأنه يريد أن يقول: "ما دام القلم بخير، فإن المستقبل بخير".

في نهاية المطاف، لم يعد فتحي بن لزرق مجرد رئيس لمؤسسة عدن الغد، أو كاتب مقالات، أو من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، لقد أصبح شخصية تعكس معركة أوسع بين الكلمة وسلطات الأمر الواقع.

إنه الرجل الذي يكتب عن الآخرين أكثر مما يكتب عن نفسه، كما يصفه الآخرون، ويعرف أن ثمن ذلك قد يكون الاعتقال أو التهديد أو التضييق.

ومع ذلك، يواصل المضي في طريقه مؤمنا أن الكلمة حين تكتب بصدق، قادرة على أن تصنع فارقا، حتى وإن كان الطريق محفوفا بالمخاطر.

وبهذا، يظل الصحافي فتحي بن لزرق الشاهد الأخير- في مدينة لطالما حلم اليمنيون باستعادة دولتهم منها-على أن الصحافة لم تعد مجرد مهنة فقط، بل قدر لا يمكن التراجع عنه.