غادر الخميس عبر مطار عدن الدولي 148 لاجئًا صوماليًا إلى بلادهم بعد أكثر من ثلاثة عقود قضوها في اليمن، في رحلة عودة طوعية نظمتها السفارة الصومالية بالتنسيق مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. هؤلاء العائدون لم يكونوا مجرد أسماء في قوائم اللجوء، بل وجوهًا مألوفة في شوارع عدن ولحج والمكلا، عاشوا في اليمن منذ مطلع التسعينات، حين فرّوا من أتون الحرب الأهلية التي اندلعت في الصومال عام 1991 وأدخلت البلاد في فوضى طويلة.
في ذلك الوقت، كانت اليمن مستقرة وآمنة، وفتحت أبوابها أمام الفارين من الحرب دون تأشيرة دخول، فكانت الوجهة الأولى والأكثر ترحيبًا للصوماليين في المنطقة. تدفقت القوارب الخشبية على شواطئ عدن والمكلا منذ عام 1993، محملة بالعائلات التي هربت من الجوع والانهيار، فوجدت في اليمن وطنًا بديلًا ومأوى كريمًا. استقر الآلاف في مخيم “خرز” بمحافظة لحج، فيما اندمج آخرون في المجتمع اليمني، عملوا ودرسوا وتزوجوا حتى صار كثير منهم جزءًا من النسيج الاجتماعي في المدن الساحلية.
واليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا، يعود هؤلاء إلى وطنهم الذي بدأ يتعافى من آثار الحرب، في وقت تعيش فيه اليمن وضعًا معاكسًا لما كانت عليه في التسعينات. فالصومال التي كانت بلا دولة ولا حكومة بدأت تستعيد مؤسساتها تدريجيًا وتبسط الأمن في العاصمة مقديشو، وبدأت التنمية تدب في شرايينها بدعم من الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي. أما اليمن التي كانت تحتضن اللاجئين فقد أنهكتها الحرب الداخلية منذ عام 2015، وانهارت خدماتها، وتقطعت سبل العيش أمام مواطنيها، وتوقفت المرتبات وغابت الدولة.
المشهد يبدو مؤلمًا ومليئًا بالمفارقات. فاليمن التي كانت ملاذًا آمنًا للآخرين أصبحت اليوم بلدًا يتمنى أبناؤه الخلاص من أزماته. أما الصومال التي كانت مدمرة تمامًا فقد بدأت تنهض، وتعيد بناء مؤسساتها وتفتح ذراعيها لاستقبال أبنائها العائدين من المنافي. هؤلاء اللاجئون الذين عاشوا في اليمن عقودًا طويلة يعودون اليوم إلى وطنهم بكرامة، بعد أن تبدلت الأحوال وانقلبت الأدوار.
إنها لحظة تستحق التأمل: من كان لاجئًا أصبح اليوم في وطنه، ومن كان وطنًا أصبح يعيش في الغربة داخل حدوده. مشهد مغادرة الصوماليين من مطار عدن ليس مجرد رحلة عودة، بل رسالة عميقة لكل اليمنيين بأن الأوطان يمكن أن تنهض من تحت الركام متى ما توحدت الإرادة وخلصت النوايا. لقد نهض الصوماليون رغم الحرب والمجاعة، فهل يمكن لليمنيين أن يفعلوا الشيء ذاته قبل أن يفقدوا وطنهم تمامًا؟