آخر تحديث :الثلاثاء-21 أكتوبر 2025-03:15م
مجتمع مدني

اللوكندات اليمنية... فنادق شعبية بلا نجوم وملاذ للفقراء

الثلاثاء - 21 أكتوبر 2025 - 10:24 ص بتوقيت عدن
اللوكندات اليمنية... فنادق شعبية بلا نجوم وملاذ للفقراء
عدن الغد - متابعات

حين برزت الحاجة إلى مكانٍ يقضي فيه عابر السبيل نهاره، ومن انقطعت به الأسفار ليلته ليستريح وينام، جاءت اللوكندات اليمنية لتؤدي هذا الدور، فهي فنادق الفقراء الذين يختارون الأماكن الشعبية وقليلة التكلفة لقضاء ليلتهم أو نهارهم أيضاً. ومنذ القدم، حين كان المسافرون عبر البحر يقضون بعض لياليهم في المدن الساحلية، برز نظام اللوكندات التي كانت توفر الراحة.

توجد اللوكندات في الغالب داخل الأسواق الشعبية، وفي الأماكن المزدحمة، وبالقرب من سواحل المدن، حيث يكثر الباعة المتجولون، وعمال البناء، وعمال المطاعم، وسائقو سيارات النقل، والفئات الشعبية الأخرى التي تمثل النسبة الأكبر من رواد اللوكندات، وهم في الغالب من غير القادرين على تحمّل تكاليف المبيت في الفنادق. وغالباً ما يكون نزلاء اللوكندات من القادمين من القرى الذين تنقطع بهم السبل داخل المدينة، فيلجأون إليها للمبيت والاستراحة، إلى جانب العمال الكادحين وذوي الدخل المحدود، كذلك فإن نسبة مهمة من روادها هم من كبار السن الذين يجدون فيها مأوىً بسيطاً.

و"اللوكندة" الاسم الشعبي لمكان الإقامة والمبيت الذي يشبه النُّزُل، وتُعدّ مكاناً فسيحاً يضم عدداً من الأسِرّة الخشبية أو الحديدية المعروفة محلياً باسم "القعادة"، ويستخدم الزبائن هذه الأسرّة للمقيل ومضغ القات خلال ساعات النهار، بينما تتحول في الليل إلى أسِرّة للنوم.

ويختلف نظام اللوكندات عن النظام الفندقي المتعارف عليه، إذ لا توجد فيها غرف خاصة أو أجنحة، بل تتكون عادة من غرفة واحدة واسعة تحتوي على أسرّة متجاورة يستخدمها الزبائن للمقيل ومضغ القات وتدخين "المداعة"، وهي النارجيلة المصنوعة بالطريقة التقليدية، ومشاهدة التلفاز، ويحق للزبون الذي يشعر بالنعاس تحويل سريره من مكان مخصص للمقيل إلى مكان مخصص للنوم.

وللوكندة حمام مشترك لجميع النزلاء يتناوبون عليه، ما يجعل الخصوصية غائبة مقارنة بالفنادق حيث تتوفر كل غرفة على حمام خاص بالزبون. كذلك فإن هذا النظام يجعل اللوكندات حكراً على الرجال فقط دون النساء، إذ إن المكان عام ويفتقد الخصوصية، حيث يقيم وينام جميع النزلاء تحت سقف واحد.

ويضفي نظام اللوكندات عليها طابعاً اجتماعياً، إذ تصبح مكاناً للتعارف بين النزلاء الذين يتبادلون الأحاديث والقصص والحكايات في جو حميم مليء بالألفة. وتعد اللوكندة الخيار الأنسب للفقراء وذوي الدخل المحدود، نظراً لانخفاض تكلفتها مقارنة بالفنادق، إذ يبلغ متوسط تكلفة الغرفة الواحدة لليلة واحدة في فندق بسيط نحو 50 دولاراً، بينما لا تتجاوز تكلفة المبيت في اللوكندة لليلة واحدة أكثر من دولار واحد، ما يجعل سريراً للنوم في متناول أشد فئات المجتمع فقراً. كذلك فإن الإقامة في اللوكندة لا تتطلب حجزاً مسبقاً، ولا بطاقة إثبات هوية، ولا أي إجراء رسمي، ويكتفي الزبون بوجود سرير شاغر ودفع المبلغ المحدد مقابل استئجاره.

ومن حيث الخدمات التي توفرها اللوكندات للنزلاء، فإن الخدمة الأساسية هي المداعة، والتي تُقدم للزبون بمقابل إضافي إلى أجرة السرير، وهي تتميز بخصائص فريدة من حيث الشكل ونوع التبغ المستخدم وطريقة إعداده، إذ يوضع التبغ (التنباك) على رأس المداعة (البوري) بعد تبليله بالماء، ثم يُغطى بالجمر لإشعالها.

وغالباً ما تُدار اللوكندات من قبل شخص واحد يجهّز الأسرّة للزبائن، ويُعدّ المداعة عبر ملء رؤوسها بالتبغ وإشعال الفحم، لتصبح جاهزةً للزبون. كذلك يتولى هذا الشخص تسلُّم تكاليف الإقامة من الزبائن.

ومن مميزات اللوكندات أنها حافظت على بساطة المكان وطبيعة التعامل، ما يضفي على الفضاء جواً حميمياً مليئاً بالألفة والود. وعلى الرغم من تواضعها، فإنها تحفظ كرامة البسطاء والفقراء والكادحين، الذين يجدون فيها سكناً للروح والجسد، ويتمتعون بدفء المشاعر الحميمية المتبادلة بين الزبائن.

وتُعَدّ اللوكندات بمثابة ملتقى ثقافي واجتماعي، حيث تجتمع شخصيات من ثقافات مختلفة تحت سقف واحد ليحكي كل منهم تجاربه ومشاكله ومعاناته، ويشارك قصصاً وحكايات شعبية، إلى جانب النكات، والشعر والفنون الشعبية الأخرى. ويسرد النزلاء حكايات تعكس عادات مناطقهم وتقاليدهم، ما يجعل اللوكندة مكاناً لتلاقح الثقافات، وتعزيز التعارف وخلق صداقات بين القادمين من خلفيات متنوعة.

وجعلت هذه الأجواء المفعمة بروح المشترك الإنساني اللوكندات من الأماكن الغنية ثقافياً في اليمن، إذ يحرص العديد من الأدباء والمثقفين على زيارتها بين الحين والآخر للانغماس في تفاصيل المجتمع وعاداته وتقاليده، والاستماع إلى القصص والحكايات التي تلهم الكتابة الأدبية المستمدة من صميم المجتمع البسيط، والذي لا يزال متمسكاً بهويته الثقافية رغم تأثيرات التمدن.