سمير مجيد البياتي، العراقي الذي نزف روحه بين ريشة وشعر، فنان قادم من سلالة الإبداع، لكنه اختار أن يخط مصير الوطن وأوجاع الوجود على قماشه. رسام وشاعر وناقد، رحلته سلسلة من الاغتراب الروحي والجسدي؛ انطلقت من دجلة، وعرّجت على حضن اليمن لأكثر من عقد، قبل أن يستقر على شاطئ تونس. هذه المسيرة الممتدة ليست سوى محاولات لصهر الحرف في اللون، وتجسيد قلق الإنسان العربي في ثنائية إبداعية آسرة.
ريشة الناقد.. ومشروع "الوجوه" الخالد
لا يرسم البياتي، بل يمارس "الكتابة الإبداعية" بغواية اللون. فلوحاته ليست صُوراً عابرة، بل هي قراءات مُتنطّقة لأرواح الأدباء وتجارب البشر. مشروعه الخالد "الوجوه" هو مدرسة قائمة بذاتها، لا يضع أول قطرة لون إلا بعد أن يغوص في أعماق الشاعر و قاموسه الأدبي. إنه يقرأ الكون بعين الريشة، ويحاور القصيدة بأنغام الألوان، ويفهم الناس بلغة الظلال.
إن مِحور فنه هو "الحزن"؛ ذلك الوجع الأصيل الذي يراه البياتي قَدَراً عربياً، وخصوصية عراقية عميقة. ففي معرضه الأول عام 1982، بدأ البياتي برصد هذا الحزن الشفاف في وجوهه التي صارت معادلاً موضوعياً للواقع المأزوم، فأتت لوحاته كـ "الرجل الحزين" و"الغمامة"، صرخات بصرية ضد الضياع، مؤطرة في عناوين قاسية مثل "الزنزانة" و"أصبح البقاء كالرحيل".
وتقف لوحة "العراق من أين والى أين؟" – التي اشتهرت بـ "الوحل" - شاهدة على قمة نضجه الفني؛ هي ملحمة بصرية تُجسّد معاناة العراق المنهك، بطلها يصارع "الوحل" بكل دلالاته، حاملاً أنفة جلجامش الذي يبحث عن الخلود في وجه الهلاك.
اليمن.. وطن ثانٍ أثرى الروح والفن
لقد كانت سنوات إقامة سمير البياتي الطويلة في اليمن فصلاً مضيئاً وخصباً، لا مجرد محطة عابرة. فنان عشق أهل اليمن واندمج في نسيجهم الثقافي، مُخلفاً أثراً فنياً لا يُمحى.
تجلّى هذا العشق في لوحته البديعة عن "الإنسان اليمني"، حيث صوّر وجه رجل مسن، اختزلت ملامحه تضاريس اليمن السهل والجبل والوديان، ونقلت ببراعة فريدة طيبة الإنسان اليمني وعمق معاناته، ممزوجة بظلال الأمل. لم يكتفِ برسم الشخوص، بل زينت لمساته الفنية أغلفة الأعمال السردية للروائي اليمني الغربي عمران، وديكورات الفضائية اليمنية التي اكتست بنكهته الطازجة.
كما توثقت أواصر الإبداع في اليمن بتبادل ثقافي رفيع، فكان البياتي جليساً في ضيافة الدكتور عبد العزيز المقالح، وقدم له ديوانيه "عودة جلجامش" و"ومضات متلألئة". وقدّم الدكتور المقالح البياتي في دراسة نقدية، ورد الفنان الجميل برسم غلاف ديوانه. وكرر المشهد ذاته مع الدكتور إبراهيم أبو طالب الذي قدم البياتي في دراسة مهمة، ليرسم له البياتي غلاف ديوانه، مُرسخاً مفهوم التبادل الإبداعي بين الشاعر والرسام.
التجسير بين الفنون: قصائد مصورة
إنّ موهبة البياتي لم تتوقف عند الرسم والتدوين النقدي (الذي أثرى به المشهد العربي)، بل امتدت لتلامس الشعر. فمشروعه "قصائد مصورة" يُحيل تجارب كبار الشعراء (كالسياب والبياتي ومظفر النواب) إلى لوحات بصرية، تحمل شفرة الشاعر وقاموسه، مُؤسساً لمشروع فني أدبي فريد.
لقد رسم البياتي أغلفة عشرات الدواوين والأعمال النقدية في الوطن العربي، ساعياً لتحقيق الخلود في أعماله عبر الإخلاص للهاجس الإنساني. وكما لخص تجربته بعبارة فلسفية عميقة: "أنا الموضوع وغيري يبحث عن نفسه في داخلي... أنا أرسم حالات إنسانية مشتركة"، فهو يُقدم نفسه مرآةً صافية للوجع الكوني والاغتراب العراقي، وقد أثرته ألوان اليمن وروحه


