آخر تحديث :السبت-01 نوفمبر 2025-01:30م
أخبار وتقارير

مشرب الزحف العربي... 70 عاماً من تقديم الثريب العدني بنكهة الناصرية

السبت - 01 نوفمبر 2025 - 10:54 ص بتوقيت عدن
مشرب الزحف العربي... 70 عاماً من تقديم الثريب العدني بنكهة الناصرية
عدن الغد - العربي الجديد

على الرغم من مرور أكثر من 70 عاماً على تأسيسه، لا يزال مشرب الزحف العربي يحتفظ بطابعه القديم الذي أنشئ عليه، بعد أن تعاقبت على إدارته أجيال حافظت على سمته الأساسية، بوصفه مشرباً يُقدّم شراب "الثريب العَدني" مع جرعة من "القومية العربية".

يقع المشرَب في مديرية الشيخ عثمان بمدينة عدن جنوبي اليمن، وهي المنطقة التي تمتاز بأنها تجمع سكاني متنوع يضم يمنيين من مختلف مناطق البلاد. ويحتضنه الدور الأرضي من مسجد النور الذي يُعدّ بدوره من أبرز معالم عدن، باعتباره أقدم مساجد المدينة وأعرقها، حيث بُني المسجد في الدور الأول، وخُصّص الدور الأرضي ليكون سوقاً شعبياً تضم المشرب والعديد من المحال التجارية التي تعرض بضائع مختلفة.

وتبدأ حكاية تأسيس المشرَب مع انتقال محمد سعيد الخامري من قريته في منطقة الأخمور بريف تعز إلى مدينة عدن في خمسينيات القرن الماضي، والتي كانت تحظى بمكانة كبيرة نتيجة انفتاحها على العالم، وتوفر فرص العمل، ما جعلها وجهة أساسية لأبناء اليمن الباحثين عن فرص عيش كريم.

كان الخامري حينها "ناصرياً" منبهراً بثورة 23 يوليو/ تموز 1952 وقائدها الزعيم جمال عبد الناصر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وصار مُلهماً لكل العرب من المحيط إلى الخليج، بوصفه زعيماً تجاوزت شهرته حدود مصر إلى شتى أنحاء الوطن العربي والعالم.

اختار الخامري منطقة الشيخ عثمان لتأسيس مشرَبه الذي أطلق عليه اسم "الزحف العربي"، متأثراً بالمد التحرّري الذي ساد في حقبة الخمسينيات. وفي اختياره لمنطقة الشيخ عثمان مغزى هامّ، فهذه المنطقة تاريخياً تمثل نسيجاً يمنياً متنوعاً رافضاً للتكتلات المناطقية والقروية والمشاريع العصبوية، وهو ما جعل الخامري يرى فيها مكاناً مناسباً للمشروع الذي ينوي تأسيسه.

كان الخامري يرغب في تأسيس مشرب لتقديم شراب "الثريب" الذي يُعد من المشروبات التقليدية في عدن، بالإضافة إلى تقديم جرعة من فكر "القومية العربية" للزبائن الذين يرتادون المشرب، والذين ينتمون إلى كل المناطق اليمنية ومختلف الفئات المجتمعية.

وشراب "الثريب" هو مشروب تقليدي شعبي ينتشر في عدن، خصوصاً في الأحياء القديمة منها، ويتألف من مزيج من الماء والزبادي أو اللبن الرائب، وتُضاف إليه قطع الثلج الذي ينعش ويخفف من حر مدينة عدن، ويُعتبر صناعة عدنية خالصة، حتى بات واحداً من أبرز سماتها.

حين تصل إلى جامع النور في الشيخ عثمان، يستقبلك المشرب العتيق الذي لا تزال واجهته تحمل لوحة قديمة كُتب عليها "مشرب الزحف العربي"، محافظةً على طابعها وخطها القديم. وحين تدخل إلى المشرب تلحظ على يمينك صورة الزعيم جمال عبد الناصر، باعتبارها تضفي على المكان رمزيته وقيمته، خصوصاً أن الخامري استوحى اسم المشرب من شدة تأثره بعبد الناصر والقومية العربية. وحين تنظر إلى الجهة اليسرى يواجهك رأس نمر عربي محنّط.

وبجوار صورة عبد الناصر عُلّقت صورة الرئيس عبد الله السلال، أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية بعد إعلانها في 26 سبتمبر/ أيلول 1962، بالإضافة إلى صور عدد من قيادات الحركة الوطنية اليمنية، وصور قديمة لمدينة عدن تحكي فصولاً من تاريخ المدينة التي كانت ولا تزال بوابة اليمن إلى العالم.

وبمحاذاة الصور، يجد الزبائن مقتنيات قديمة تعود لمختلف المراحل التاريخية التي عاشها المشرب منذ تأسيسه، وتتنوع بين ساعات وتلفونات وأجهزة قديمة وتحف ومصنوعات يدوية وغيرها، ما يجعل المشرب أشبه بمتحف صغير يروي تاريخ مدينة عريقة.

وتفترش جوانب المشرب رؤوس حيوانات محنّطة من النمر العربي إلى الوعل اليمني والصقر وغيرها الكثير، موزعة بشكل يشدّ انتباه الزبائن، وكأنّها تحكي تاريخاً عريقاً لهذا المشرب الذي ظلّ يحافظ على مجمل تفاصيله من دون أي تغيير، على الرغم من مرور حقبة زمنية طويلة وتعاقب العديد من الأشخاص على إدارته، حتى صار مَعلماً من معالم مدينة عدن، جنباً إلى جنب مع صهاريج المدينة ومنارتها.

وقد كان اسم المشرب ترجمة حقيقية لنشاطات عدة شهدها خلال فترة الاحتلال البريطاني لعدن، إذ لعب دوراً بارزاً في الحراك الثوري ضد البريطانيين، فكان أن خُصّصت غرفة جانبية صغيرة للمشرب بوصفها غرفة خاصة لاجتماعات الثوار والفدائيين الذين ينفذون هجمات مسلحة ضد جنود الاحتلال البريطاني، ولتبادل الرسائل المتعلقة بالمقاومة والعتاد الحربي، مثل المؤن والذخيرة والأسلحة.

إضافة إلى الحراك الثوري الذي لعبه المشرب، فقد شكل كذلك مساحة فنية وثقافية تنويرية من خلال احتضانه أهل الفن والثقافة في لقاءات واجتماعات ساهمت في تبادل الأفكار والنقاشات، إلى جانب إقامة فعاليات ثقافية مصغّرة. كما أن المشرب كان من أوائل المحلات التي يصل إليها جهاز الراديو في عدن واليمن، فكان الزبائن يتحلّقون حول هذا الجهاز الذي كان غريباً بالنسبة إليهم للاستماع إلى الأخبار والبرامج الإذاعية التي تبثها القنوات الإذاعية، وفي مقدمتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" وإذاعة صوت العرب التي كانت تنقل أخبار جمال عبد الناصر وأخبار الحراك الثوري في الوطن العربي.

ومنذ تأسيسه يعتبر مشرب "الزحف العربي" بمنزلة إذاعة ثورية تصدح فيه الأغاني الثورية والوطنية، مثل "برع يا استعمار" و"أنا الشعب زلزلة عاتية" و"الله الله يا أكتوبر"، وغيرها من الأناشيد التي رافقت حركات النضال الوطني في شمال اليمن وجنوبه ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب، وضد نظام الإمامة في الشمال.