لم تغب عدن يوماً عن الذاكرة الثقافية العربية، فهي المدينة التي خلقت وفي نبضها أصداء المسرح وهمس البحر والموسيقى، لكنّ رياح التحوّلات التي عصفت بالسنوات الماضية أطفأت بعضاً من ألقها، وخفّت عنها أنوار المسارح والمقاهي الأدبية، حتى بدا المشهد الثقافي فيها كعود منسيّ ينتظر من يعيد إليه أوتاره ووهجه الأول.
اليوم تعود عدن بخطى مفعمة بالثقة والعزم، لتكتب فجراً جديداً لهويتها الثقافية، فمن بين رماد الغياب ينهض مكتب الثقافة بعدن حاملاً شعلة الفنّ والإبداع نحو إعادة صياغة المشهد الثقافي بروح شابة تؤمن بأن الفنّ هو الطريق الأقصر إلى استعادة التوازن والجمال في وجدان المدينة.
وقد بدأت هذه الروح الجديدة تترجم نفسها على الأرض عبر سلسلة من الفعاليات والأنشطة التي فرضت حضورها في الوسط الأدبي والفني، أبرزها تدشين مشروع مسرح عدن وتكريم روّاده الأوائل، وفي الأفق القريب يستعد المكتب لإطلاق حدث نوعيّ غير مسبوق نهاية نوفمبر المقبل، وهو مهرجان الطفل الموهوب، الذي يأتي ليؤكد أن الغد يولد من شرارة الموهبة الأولى.
وقد أشار غالبية من المثقفين التقينا بهم –في حديث لا يخلو من الامتنان– إلى أن حضور الشاعر أسامة المحوري في موقع نائب مدير مكتب الثقافة شكّل علامة فارقة في مسار هذا التحول، لما يتمتع به من حس فني عميق وقدرة على ربط الأدب بالحياة العامة، فكان أن تحركت المياه الراكدة وانفتحت الآفاق أمام جيل جديد من المبدعين.
وفي قلب هذه النهضة الثقافية يتسع المشهد العدني ليشمل كل ألوان الإبداع، من المسرح والموسيقى إلى الفنون التشكيلية والقراءة والشعر، فقد أدرك مكتب الثقافة أن النهضة لا تبنى إلا على مشروع مستدام يعيد للثقافة موقعها الطبيعي في حياة الناس وفي وجدان الأجيال الجديدة، لذلك جاءت برامجه الأخيرة متنوعة في مضمونها وموزعة بين الفعل الفني والوعي الاجتماعي، لتؤكد أن الثقافة حالة وعي متكاملة تبدأ من المدرسة وتنتهي في المسرح.
وفي هذا السياق، يعد مهرجان "الطفل الموهوب" الذي يجري الإعداد له كأحد أهم الخطوات في هذه الرؤية الجديدة، حيث يسعى المهرجان إلى اكتشاف الطاقات الصغيرة ورعايتها منذ البذرة الأولى، بما يمهّد لخلق جيل جديد من المبدعين الصغار الذين يشكلون ملامح المستقبل الثقافي لعدن واليمن بأكمله.
ويضم المهرجان مسابقات وأنشطة في مجالات الشعر والإلقاء والمسرح والفن التشكيلي والغناء بمشاركة عشرات الأطفال من المدارس الحكومية والخاصة في عدن ممن تم اختيارهم بعناية بعد مراحل من الفرز والتقييم.
أما الفنانون والمسرحيون الذين طالما حلموا بعودة الضوء إلى مسارح المدينة فيرون في هذا المهرجان رسالة رمزية كبيرة، إذ يعيد المسرح إلى دوره التربوي والإنساني ويعيد الطفل إلى دائرة الفعل الثقافي بعد أن ظلّ طويلاً على هامش الاهتمام الرسمي.
تلك الرؤية التكاملية التي تتبناها قيادة مكتب الثقافة في عدن، تسعى لأن تحوّل العمل الثقافي من نشاط محدود إلى مشروع تنموي شامل يستند إلى الشراكة مع المدارس والجامعات والبيوت الفنية، ويستثمر الطاقات الشبابية التي بدأت تظهر بقوة في المشهد العدني الجديد، فالمكتب اليوم يعمل على تأسيس بنية تحتية ثقافية مستدامة تشمل إعادة تأهيل المسارح والمراكز الفنية.
ويؤكد مثقفون أن هذه العودة اللافتة للمكتب لم تكن لتتحقق لولا روح الفريق الجديدة التي دخلت المشهد، والتي استطاعت الجمع بين التجربة والخبرة من جهة، والحيوية الشابة من جهة أخرى، فكان الناتج توازناً بين الحلم والتنفيذ والفكرة والواقع.
وهكذا من رماد الغياب تنهض عدن بثقافتها من جديد، رافعة مشعل الإبداع في زمن تتعثر فيه المدن الأخرى بالخذلان، فالمدينة التي أنجبت كبار الشعراء والموسيقيين والمسرحيين، تثبت اليوم أنها قادرة على أن تنبت الجمال من بين الشقوق، وأن تحوّل الصعوبات إلى منطلق للحياة.