في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة الحديث عن «إصلاحات اقتصادية كبرى» وعن «سياسات مالية جديدة» و«خطط استراتيجية لتحسين الإيرادات»، تتسع الفجوة بين الخطاب الرسمي ومعاناة المواطن اليومية. الإصلاحات التي تُطرح في المؤتمرات والتصريحات لم تغيّر شيئاً في حياة الناس؛ بل بات السؤال الأكبر في شوارع عدن وتعز ومأرب وحضرموت: أين الرواتب؟
ففي بلدٍ يعيش فيه أكثر من 80٪ من السكان تحت خط الفقر، صار الراتب الشهري – إن صُرف – لا يساوي قيمة أسبوع واحد من الاحتياجات الأساسية. ومع الانهيار المستمر في سعر الريال اليمني، تحولت الوعود الحكومية إلى ترفٍ لغويّ لا يسمن الجائعين ولا يغطي ثمن الكهرباء والماء والمواصلات.
عدن.. رواتب لا تصل وكهرباء لا ترحم
يقول “عبدالسلام صالح”، موظف في إحدى المؤسسات الحكومية بعدن، إن راتبه لا يتجاوز 90 ألف ريال، بينما إيجار شقته الصغيرة ارتفع إلى 180 ألف ريال شهريًا.
يضيف بحرقة لصحيفة عدن الغد: “نعيش على الديون. الراتب إذا جاء متأخراً نصف شهر، يذهب في نفس اليوم لسداد البقال والدَّين. الإصلاحات التي يتحدثون عنها لم نلمس منها شيئاً غير ارتفاع الأسعار”.
ويتابع: “كل شيء في عدن غالٍ.. المواصلات، الماء، الإنترنت، الغاز، حتى الخبز أصبح رفاهية. لم نعد نخطط للمستقبل، نخطط فقط للبقاء.”
في الوقت ذاته، يعاني القطاع الخدمي من انهيار شامل: الكهرباء التي تنقطع بالساعات، وغياب المياه في أحياء كاملة، فيما تُصرف ملايين الدولارات على مشاريع شكلية لا يشعر بها المواطن.
تعز.. مدينة بلا مرتبات منذ أشهر
في مدينة تعز، التي تعيش على خطوط تماس الحرب والفقر، يقول “محمد يحيى”، معلم في مدرسة حكومية: “منذ ثلاثة أشهر لم نستلم راتباً كاملاً. نحصل على نصف راتب أحياناً أو سلفة متأخرة. التعليم ينهار، والمعلم يعيش على الكفالة أو المساعدات.”
زوجته “أروى” تعمل ممرضة متطوعة في أحد المستشفيات وتقول: “لا يوجد راتب ثابت. ننتظر الفرج كل شهر، ونعيش على ما يرسله أقاربنا من الخارج. كيف يتحدثون عن إصلاحات والناس لا تجد ثمن حليب أطفالها؟”
تعز، التي كانت يوماً مدينة العلم والتجارة، أصبحت اليوم رمزاً للإهمال الرسمي. لا ميزانية تشغيلية للمدارس ولا للمستشفيات، فيما يضطر كثير من الموظفين لركوب الدراجات لعدم قدرتهم على دفع أجرة المواصلات.
مأرب.. مدينة النفط التي بلا أجور
رغم كونها إحدى أكثر المحافظات استقرارًا نسبيًا وموطناً للنفط والغاز، فإن مأرب ليست استثناء.
يقول “عبدالملك المريسي”، موظف في شركة خدمية محلية: “نحن في محافظة تنتج الغاز، لكننا لا نملك حتى ثمن اسطوانة غاز. الراتب يظل متأخراً لشهور، والأسعار في تصاعد.”
ويضيف: “تتحدث الحكومة عن الإصلاحات وكأنها إنجاز. الإصلاح يبدأ من دفع مستحقات الناس، لا من رفع سعر الدولار الجمركي أو زيادة الجبايات.”
مأرب أصبحت مركزًا للنفوذ السياسي والاقتصادي، لكن المواطنين فيها يشكون من ارتفاع الأسعار بشكل جنوني؛ فأسعار الإيجارات تضاعفت، والكهرباء التجارية أصبحت عبئًا، وأسعار المواد الغذائية تتغير كل أسبوع.
حضرموت.. الغنية التي أنهكتها الجبايات
من سيئون يتحدث “عبدالله باحميش”، موظف في القطاع الصحي: “في حضرموت يأتينا الراتب في موعده، لكنه بلا قيمة. كيلو السمك بمئة ألف، وأسعار الوقود تضاعفت. كل ما نحصل عليه من راتب لا يغطي سوى أسبوع.”
وتقول “سعاد التميمي”، موظفة في مكتب التربية بالمكلا لصحيفة عدن الغد: “المشكلة ليست فقط في ضعف الراتب، بل في كثرة الجبايات والضرائب غير المعلنة. ندفع حتى مقابل أوراق العمل التي نستلمها.”
في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن “زيادة الإيرادات في حضرموت”، يشعر المواطن أن تلك الإيرادات لا تعود عليه، بل تذهب إلى جيوب المسؤولين أو تُهدر في مشاريع بلا أثر.
الرواتب في مواجهة السوق
الراتب الذي كان يكفي أسرة من خمسة أفراد قبل الحرب بات اليوم لا يغطي حتى نصف الاحتياجات الأساسية.
يقول الباحث الاقتصادي “جمال العريقي”:
“ما لم يتم ربط الإصلاحات بسياسات حماية اجتماعية حقيقية، فإنها تبقى مجرد شعارات. الحديث عن الإيرادات لا يهم المواطن بقدر ما يهمه أن يجد راتبه في الوقت المحدد، وأن يكون كافياً لتغطية المعيشة.”
ويضيف: “الحكومة تتحدث عن إصلاحات مالية بينما تغفل أهم بند في الموازنة: رواتب الموظفين. هذه ليست منّة، بل حقّ دستوري.”
الإصلاحات الغائبة عن حياة الناس
بينما يعلن المسؤولون في المؤتمرات عن “تحقيق الاستقرار المالي” و”رفع كفاءة التحصيل الضريبي”، يعيش الموظف والمواطن على وعود فارغة.
فالإصلاحات التي تتحدث عنها الحكومة لا تلمس حياة الناس إلا من خلال ارتفاع الأسعار، وزيادة الرسوم، وفرض جبايات جديدة، دون أن تُصرف الرواتب أو تتحسن الخدمات.
بل إن بعض الموظفين في عدن وتعز يؤكدون أن مخصصاتهم تُقتطع لأسباب “إدارية” غامضة، وأن النظام المالي بات معقدًا إلى درجةٍ تجعل صرف المرتبات أقرب إلى المعجزة الشهرية.
شهادة من الشارع
في سوق القات بكريتر، يقول بائع الخضار “سامي عمر”: “ما عد فيش راتب ولا زبون. الناس تجي تسأل عن الأسعار وتروح. حتى أصحاب الرواتب ما عاد يشتروا إلا الضروري.”
أما “نبيلة عبدالله”، وهي موظفة في مكتب حكومي صغير، فتقول: “الإصلاحات؟ خليهم يصلحوا بطونهم أول. نحن نشتغل ونرجع للبيت بلا كهرباء، بلا غاز، بلا أمل.”
إصلاح بلا إنسان
كل إصلاح اقتصادي لا يبدأ من الإنسان ولا ينتهي عنده هو مجرد هندسة مالية باردة.
اليمنيون لا يريدون مؤتمرات أو خططاً خمسية، يريدون راتباً محترماً، وكهرباء، وماءً نظيفاً، ومستشفى لا يطلب “مصاريف الطوارئ” قبل أن يلمس المريض.
حادثة العرقوب هزّت ضمير الناس، لكن الأزمة الاقتصادية تهز حياتهم يوميًا في صمتٍ أشد إيلامًا.
لقد حان الوقت لأن تجيب الحكومة على السؤال الذي يملأ شوارع اليمن:
أين رواتب الناس؟ وأين ذهبت وعود الإصلاح؟
غرفة الأخبار / صحيفة عدن الغد