تحت عنوان "ملكية الشعر" و"أرض النشامى"، شهدت العاصمة الأردنية (عمّان) مؤخراً لقاءً أدبياً وإنسانياً رفيع المستوى، جمع الشاعر اليمني والباحث الأكاديمي، الدكتور محمود أبوبكر، بزميله وصديقه الشاعر الأردني الدكتور علي الدهامشة. هذا اللقاء لم يكن عابراً، بل كان تتويجاً لصحبة أدبية وأكاديمية متينة نشأت وتوطدت في رحاب تونس الخضراء على مدى سنوات.
بعد حفل توديع مهيب في تونس يليق بمكانته الأكاديمية والشعرية، توجه الدكتور أبوبكر إلى الأردن. وعند وصوله، كان الدكتور الدهامشة في استقباله في المطار، مجسداً أسمى صور النخوة والشهامة العربية. فقد اصطحب الدهامشة صديقه إلى منزله في "أم الوليد" (الرصيفة/الزرقاء)، حيث أقيمت له وليمة احتفاءً بمقدمه، قبل أن يودعه إلى وجهته التالية في المملكة العربية السعودية.
وقد وثّق الشاعران هذا اللقاء الخالد بقصيدتين متبادلتين، تحول فيهما حدث السفر والوداع والاستقبال إلى مادة شعرية نابضة، تمجّد الصداقة التي لا تهزمها المسافات، وتؤكد على أصالة الترابط الثقافي بين اليمن والأردن، ورصيدهما المشترك من تونس.
لقد تجاوز هذا اللقاء حدود الخبر العادي ليصبح نصاً شعرياً مركباً، يمزج بين رثاء المكان (تونس) ومديح الوفاء (الأردن)، ليرسم لوحة بديعة للمثاقفة العربية الأصيلة.
أولاً: قصيدة الوداع والبحث عن السلوى (محمود أبوبكر)
ينطلق الشاعر اليمني محمود أبوبكر من وجع الانفصال، حيث تبدأ قصيدته بـ "الوجد" و"الأدمع"، وهي حالة شعورية راقية تتناسب مع شاعر يترك خلفه سنين من العلم والذكريات:
لَــمَّــا وَقَــفْــتُ مُـسَـلِّـمًـا وَمُــوَدِّعَــا ** وَالْــوَجْـدُ يَـجْـذِبُنِي لَـهَـا أَنْ أَرْجِـعَـا
هذا المقطع الافتتاحي يرسم "ثنائية الوداع": القلب ينجذب إلى البقاء، بينما الواقع يفرض المغادرة (وَلَــيْــسَ ثَــمَّـةَ مِـــنْ سَـبِـيـلٍ لِـلْـبَـقَا). هذه اللحظة الدرامية تُنقل من الحيز النفسي إلى الجسدي المحسوس: "أُلَـمْـلِمُ أَضْـلُـعِي" و "أُكَـفْـكِفُ أَدْمُـعَا"، في إشارة إلى المحاولة اليائسة لجمع الشتات الداخلي.
ولكن القصيدة سرعان ما تتحول من رثاء الذات إلى "نور الأمل" عند بلوغ الأردن. تتحول أرض النُّشامى من محطة عبور إلى "حمى شعري" حين يقول:
حَــتَّى بَـلَـغْـتُ الْأُرْدُنَ الْـعِـرَّ عَـلَـى ** أَمَـــلٍ بِـــأَنْ أَلْـقَـى الـزَّمِـيلَ الْأَلْـمَـعَا
إن هذا الانتقال ليس جغرافياً فحسب، بل هو تحول ثيمي (موضوعي)؛ فبعد ألم تونس، يأتي الدهامشة كـ "السلوى الشعرية" (كَـيْـمَـا يُـخَـفِّـفَ مَـــا أَلَـــمَّ وَأَوْجَـعَـا). القصيدة تختتم بمدح "النخوة والشهامة" التي رأى فيها الشاعر "ندى كأني عشت فيهم مربعا"، وكأن دفء الاستقبال قد عوضه عن أربع سنين قضاها، فصار المربع (الفترة الزمنية الطويلة) مضموماً في ليلة الوفاء.
ثانياً: قصيدة الاستقبال والتأصيل (علي الدهامشة)
تأتي قصيدة الشاعر الأردني الدكتور علي الدهامشة كـ "جواب الوفاء" و"تأكيد الأصالة". هي قصيدة ترحيب لا تبدأ بالاحتفاء بالضيف فحسب، بل بالاحتفاء بالأرض التي وطأتها قدماه:
أهْلًا بِمَن حَطَّتْ على أَرْضِ الوَطَنْ ** مَلَكِيَّةٌ والعَيْنُ تَرْقُبُ مَنْ بَهَا
استخدام لفظة "مَلَكِيَّةٌ" هنا يحمل بعدين: الأول إشارة إلى الوسيلة (الطائرة)، والثاني إلى الاحتفاء الملكي الذي يليق بمقام الضيف الشاعر. يركز الدهامشة على ملامح الهوية والروحانية في وصف صديقه: "وَجْهٌ اليمانيّ وَالبَشَاشَةُ وَالتُّقَى"، رابطاً إياه بالصفات الفضلى التي يستمدها من أرضه.
أما البلاغة الأعمق فتكمن في ربط الضيف بأرضه وتاريخه، فـ "محمود" ليس مجرد اسم، بل هو "اسْمٌ وَالمَكَارِمُ أَصْلُهَا". ويعمق الدهامشة هذا التأصيل بالقول:
مِنْ أَرْضِ حِمْيَرَ وَالأَصَالَةُ قَدْ نَبَتْ ** أَرْضُ النَّشَامَى دَامَ رَبِّي عِزُّهَا
هذا المقطع يرفع اللقاء من مستوى الصداقة الشخصية إلى مستوى "العروبة الشاعرة"، حيث يلتقي مجد اليمن القديم (حِمْيَر) بنخوة الأردن المجيد (أَرْضِ النَّشَامَى)، ويكون الشعر هو اللغة الجامعة، و"تونس" هي الميثاق الذي وُقعت عليه هذه الصحبة الخالدة.
في المحصلة، يمثل هذا اللقاء قصيدة مشتركة غير مكتوبة، موضوعها الوفاء، قافيتها الأصالة، وبحرها الامتداد العربي الذي يجعل جرح الوداع يُداوى بدفء اللقاء، ويؤكد أن الشعر، قبل أن يكون فناً، هو جوهر للسلوك الإنساني النبيل.
وسأترككم مع حوارية لقاء العهد ووفاء الشعر حيث يُثبِت هذا اللقاء الشعري أن الوفاء هو القيمة الشعرية الأعلى. فبين قصيدة تصف ألم الوداع لتونس للدكتور محمود أبوبكر:
لَــمَّــا وَقَــفْــتُ مُـسَـلِّـمًـا وَمُــوَدِّعَــا
وَالْــوَجْـدُ يَـجْـذِبُنِي لَـهَـا أَنْ أَرْجِـعَـا
وَلَــيْـسَ ثَــمَّـةَ مِـــنْ سَـبِـيـلٍ لِـلْـبَـقَا
وَلَــيْــسَ لِــــي إِلَّا أُغَـــادِرَ مُـسْـرِعَـا
فَــأَخَـذْتُ بِـالْـيُمْنَى أُلَـمْـلِمُ أَضْـلُـعِي
وَأَخَــذْتُ بِـالْـيُسْرَى أُكَـفْـكِفُ أَدْمُـعَا
غَادَرْتُ تُونِسَ وَالْجَوَى فِي مُهْجَتِي
وَلَــسْــتُ أَمْــلِـكُ حِـيـلَـةً إِلَّا الــدُّعَـا
فِــيـهَـا حَــلَـلْـتُ مُــكَـرَّمًـا وَمُـبَـجَّـلَا
عَـهْـدًا مِــنَ الـسَّـنَوَاتِ نَـافَـتْ أَرْبَـعَا
وَمَـضَـتْ بِـنَـا نَـحْـوَ الْـفَـضَا مَـلَـكِّيَّةٌ
وَالــذِّكْـرَيَـاتُ تَــمُـوجُ قَـلْـبًـا قُـطِّـعَـا
حَــتَّـى بَـلَـغْـتُ الْأُرْدُنَ الْــعِـرَّ عَـلَـى
أَمَـــلٍ بِـــأَنْ أَلْـقَـى الـزَّمِـيلَ الْأَلْـمَـعَا
ابْــنَ الـدَّهَـامِشَةِ الْـكِـرَامِ عَـلِي مَـنْ
عِـشْـنَا بِـتُـونِسَ رِفْـقَـةً نَـمْضِي مَـعَا
فَــوَجَـدْتُـهُ وَكَــــأَنَّ رَبِّــــي سَــاقَــهُ
كَـيْـمَـا يُـخَـفِّـفَ مَـــا أَلَـــمَّ وَأَوْجَـعَـا
وَنَــزَلْــتُ فِــــي أُمِّ الْـوَلِـيـدِ دِيَـــارَهُ
وَبِـهَـا عَـلَـى عَـجَـلٍ قَـفَـلْتُ مُـوَدِّعَـا
فَــبَـلَـوْتُ فِـيـهَـا نَــخْـوَةً وَشَـهَـامَـةً
وَنَــدًى كَـأَنِّـي عِـشْـتُ فِـيهِمْ مُـرْبَعَا
شُـكْـرًا لِـمَـنْ عَـمِـلُوا لِـتَـسْهِيلِ الـلِّقَا
وَهْــــوَ لِـمَـمْـلَكَةِ الْأَمَــاجِـدِ أَجْـمَـعَـا
وقصيدة تستقبل بترحيب يمحو ذلك الألم في الأردن، تُصاغ ملحمة صغيرة تؤكد أن الصداقة الحقيقية هي الوطن البديل، وأن الشعر العربي يظل هو اللغة السامية التي تُبنى بها الجسور فوق خرائط السياسة والمسافات للشاعر الدكتور علي الدهامشة يقول فيها
أهْلًا بِمَن حَطَّتْ على أَرْضِ الوَطَنْ
مَلَكِيَّةٌ والعَيْنُ تَرْقُبُ مَنْ بَهَا
وَجْهٌ اليمانيّ وَالبَشَاشَةُ وَالتُّقَى
هَذَا الَّذِي نَظَمَ القَصَائِدَ كُلَّهَا
فَخْرًا بِأَرْضِ العُرْبِ أَرْضِ المُلْتَقَى
أَرْضٌ إذا هَبَّتْ رِيَاحُ غَلِيلِهَا
سَادَ السَّلَامُ وَزَالَ ظُلْمٌ قَدْ طَغَى
مَحْمُودُ اسْمٌ وَالمَكَارِمُ أَصْلُهَا
مِنْ أَرْضِ حِمْيَرَ وَالأَصَالَةُ قَدْ نَبَتْ
أَرْضُ النَّشَامَى دَامَ رَبِّي عِزُّهَا