آخر تحديث :الأربعاء-17 ديسمبر 2025-01:29م
أخبار وتقارير

تحليل سياسي : كيف ربح الحوثيون من انقسام خصومهم؟ القسم السياسي صحيفة عدن الغد

الأربعاء - 17 ديسمبر 2025 - 12:08 م بتوقيت عدن
تحليل سياسي : كيف ربح الحوثيون من انقسام خصومهم؟
القسم السياسي صحيفة عدن الغد
((عدن الغد))خاص

منذ لحظة الانقلاب الحوثي وسيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء وتمدّدها عسكريًا مطلع 2015، بدا المشهد – نظريًا – واضحًا: معركة وطنية لاستعادة الدولة وإنهاء مشروع مسلح فرض نفسه بالقوة على اليمنيين. لكن ما حدث لاحقًا، وبالتحديد منذ دخول الحرب عامها الثاني، كشف أن الحوثيين لا يحتاجون فقط إلى السلاح ليبقوا؛ بل يحتاجون قبل كل شيء إلى خصمٍ منقسم، وبيئة سياسية متشظية، وتحالفات مرتبكة، وخطوط تماس لا تُحسم، وأولويات متنافسة داخل المعسكر المناهض لهم. في هذا السياق، تحولت الحرب تدريجيًا من “حرب يمنية واحدة ضد الحوثيين” إلى “حروب متعددة داخل المعسكر ذاته”، وبين القوى نفسها، ومع الدولة نفسها، وهو ما منح الحوثيين هدية استراتيجية مجانية: الوقت، ثم الوقت، ثم المزيد من الوقت حتى تحولت الجماعة من مشروع انقلاب معزول إلى سلطة أمر واقع تُدير اقتصادًا حربيا، وتبني مؤسسات قمعية، وتفاوض من موقع قوة نسبية.


في 2015 كانت الصورة العامة تتجه إلى فكرة “استعادة الشرعية” كعنوان جامع، ودخل التحالف العربي بوصفه داعمًا لهذا الهدف، وتشكّلت جبهات واسعة، واندفع اليمنيون – بطرق متعددة – للدفاع عن مدنهم وإيقاف التمدد الحوثي. لكن المشكلة لم تكن في غياب الشجاعة أو نقص التضحيات؛ بل في غياب “العقل السياسي الموحد” الذي يحوّل التضحية إلى مشروع دولة. ومع مرور الوقت، بدأ يتضح أن خصوم الحوثي يتوزعون على مراكز نفوذ متعددة: حكومة معترف بها دوليًا تعاني من ترهل إداري وفساد وضعف قرار، وقوى عسكرية وأمنية محلية صاعدة تُدار بولاءات مختلفة، وأحزاب سياسية تُقدّم حساباتها الخاصة على حساب بناء الدولة، ونخب اجتماعية قبلية واقتصادية تحاول حماية مصالحها في ظل الفوضى. كل ذلك صنع معادلة قاتلة: لا مركز قرار واحد، ولا غرفة عمليات واحدة، ولا رؤية سياسية واحدة للحسم أو للتسوية، ولا حتى تعريف متفق عليه لمعنى “النصر”.


استفاد الحوثيون من هذه الفوضى على مستويين متوازيين: الأول ميداني/عسكري، والثاني سياسي/اجتماعي. ميدانيًا، حين يتقاتل الخصوم أو يتنافسون على الجغرافيا المحررة، تنخفض كثافة الضغط على جبهات الحوثيين، وتتبدد الموارد، وتضعف خطوط الإمداد، وتُستنزف القوات في صراعات جانبية، أو في انتشار واسع بلا هدف حاسم. وسياسيًا، حين تتعدد الخطابات داخل المعسكر المناهض للحوثي، يصبح الحوثي قادرًا على الظهور – دعائيًا – كطرف “متماسك” مقابل خصوم “مفككين”، ويستخدم ذلك لتجنيد أنصار جدد، ولترهيب المجتمع، ولتبرير قبضته الحديدية باعتبارها “استقرارًا” في مواجهة “فوضى الآخرين”.


منذ 2016 بدأ الانقسام يتجذر داخل البنية السياسية التي يفترض أنها تقود المعركة. تعثر بناء مؤسسات فعالة في المناطق المحررة، وتداخلت السلطات، وتزايدت المراكز المتنازعة على الإيرادات والأمن والقرار، وأصبحت الملفات الخدمية والاقتصادية – الرواتب والكهرباء والمياه وسعر الصرف – ساحة صراع إضافية. هنا فهم الحوثيون درسًا بالغ الأهمية: خصومهم قد يهزمونهم عسكريًا في معركة، لكنهم ينهزمون سياسيًا في إدارة ما بعد المعركة. ومع كل أزمة خدمات أو انهيار اقتصادي في المناطق الخارجة عن سيطرة الحوثيين، كانت الجماعة تكسب دعائيًا، وتقول للناس: “انظروا إلى الفوضى حيث لا نحكم”، وتستخدم ذلك لإقناع بعض الشرائح – تحت الخوف أو الحاجة – بأن سلطة الأمر الواقع أفضل من الغياب التام للدولة.


ثم جاءت مرحلة أخطر: حين صارت المعركة ضد الحوثي “موضوعًا” ضمن صراعات أخرى، وليست “الموضوع المركزي”. نشأت معارك نفوذ داخل المدن المحررة، وتبدلت الولاءات، وظهرت تشكيلات مسلحة متعددة تتنافس على الأرض والموارد والنقاط والقرار. ومع تضخم اقتصاد الحرب (الجبايات، المشتقات، المنافذ، الشركات، الاعتمادات، الصرافة)، صار لدى كثير من الأطراف – عن قصد أو دون قصد – مصلحة في استمرار الحرب؛ لأن الحرب باتت تخلق ثروات سريعة ونفوذًا سهلًا خارج إطار الدولة. الحوثيون كانوا أذكى من الجميع في هذا الباب: أسسوا اقتصادًا حربيا منظمًا في مناطقهم عبر الجبايات والإتاوات والتحكم بالسوق، بينما ظل خصومهم عاجزين عن تنظيم اقتصاد دولة في مناطقهم، فظهرت الفوضى المالية وتعددت مراكز الإيراد، وتآكلت الثقة الشعبية. وفي كل مرة يُطرح سؤال “لماذا لم يُحسم الحوثي؟” يعود الجواب إلى هذا الجوهر: لأن الدولة لم تُبنَ كأداة حسم، بل تركت تتآكل لصالح نفوذ متنازع.


أما الانقسام داخل التحالف نفسه، فقد منح الحوثيين مساحة أوسع للمناورة. التحالف في أي حرب ليس مجرد طائرات وسلاح؛ هو انسجام سياسي وأولويات موحدة وسقف أهداف محدد. حين تتعدد الأولويات داخل التحالف، تصبح الجبهات انعكاسًا لهذه التعددية: . هذا ليس اتهامًا بقدر ما هو توصيف لطبيعة حروب المنطقة المعقدة. الحوثي استثمر هذا التباين ليقدّم نفسه طرفًا واحدًا مقابل أطراف كثيرة، ويشتغل على “الشقوق الصغيرة” حتى تتحول إلى تصدعات كبيرة: خطاب إعلامي يضخم الخلافات، قنوات خلفية تلتقط الرسائل، عمليات عسكرية محسوبة لإثبات الوجود، وتلويح مستمر بإطالة الحرب كي تُستنزف كل الأطراف.


وتحولت المعركة بمرور السنوات إلى طبقات متراكبة: طبقة عسكرية على خطوط تماس جامدة، وطبقة سياسية تفاوضية تُدار عبر الوسطاء، وطبقة اقتصادية تُدار عبر البنوك والصرافين والإيرادات، وطبقة اجتماعية تُدار عبر التعبئة الطائفية والقمع. الحوثيون تفوقوا في إدارة هذه الطبقات لأنهم يملكون “وحدة القرار” و“قبضة أمنية” تمنع ظهور مراكز قوة داخلية تنازعهم. بينما خصومهم، رغم تنوعهم الكبير، لم ينجحوا في إنتاج عقد سياسي جديد يضبط السلاح تحت سلطة واحدة، ويعيد تعريف الأولويات، ويضع مفهوم الدولة فوق مفهوم الجماعة. كل طرف كان يرى في الآخر منافسًا على الغنيمة أو النفوذ، لا شريكًا في مشروع استعادة دولة. وهنا تحديدًا انتقل الحوثي من “خصم يجب هزيمته” إلى “مرآة تكشف عجز خصومه عن توحيد صفهم”.


انعكس هذا التشظي على مفهوم الحسم. الحسم العسكري يحتاج ثلاثة شروط: قرار سياسي موحد، قيادة عمليات مشتركة، وبيئة داخلية مساندة عبر خدمات ورواتب واستقرار في المناطق المحررة. ما حدث هو العكس: القرار السياسي كان متذبذبًا، والقيادة المشتركة كانت ضعيفة أو تتأثر بالتجاذبات، والبيئة الداخلية كانت تنفجر بأزمات متتالية. وهذا ما أطال الحرب. كلما اقتربت لحظة حسم في جبهة، تظهر أزمة سياسية أو اقتصادية تعيد ترتيب الأولويات. وكلما ارتفعت معنويات الناس بفكرة استعادة الدولة، جاءت صدمة جديدة: انهيار عملة، فساد فاضح، صراع نفوذ، فوضى أمنية، أو عجز حكومي. الحوثي كان يراقب ويبتسم؛ لأن خصومه ينزعون من أيديهم أهم سلاح في الحروب: الثقة الشعبية.


ثم إن تعدد المعارك سمح للحوثي بتبني استراتيجية “التمدد البطيء” بدل “الاندفاع المكلف”. عندما يضعف الضغط على جبهته بسبب صراعات الآخرين، لا يحتاج إلى هجمات كبيرة؛ يكفيه تثبيت ما لديه، وبناء قدرات صاروخية وطائرات مسيرة، وإدارة جبايات، وتثبيت عقيدة قتالية، ثم اختيار لحظات مناسبة لرفع سقف التهديد. ومع كل جولة تصعيد، يعيد فرض نفسه على الطاولة: طرف لا يمكن تجاوزه. وهكذا تُصنع السلطة بحسابات باردة: ليس بالحرب الشاملة فقط، بل بإطالة الحرب حتى يمل الخصوم، وحتى تتبدل أولويات الإقليم والعالم.


وتظهر الاستفادة الحوثية بوضوح في ملف الأسرى، وملف الموانئ، وملف المرتبات، والطرق، والتصعيد العسكري، وحتى في الخطاب السياسي. الانقسام في المعسكر المناهض للحوثي جعل كل ملف قابلًا للتجزئة والمساومة. بدل أن يكون هناك موقف واحد: “لا تفاوض دون دولة”، صار هناك تفاوض على الملفات منفصلة، دون أن يقود ذلك إلى حل شامل. وفي كل مرة تُجزّأ الملفات، يربح الحوثي: يقدّم تنازلًا صغيرًا مقابل اعتراف ضمني بسلطته، أو مقابل مكاسب اقتصادية، أو مقابل وقت إضافي لترتيب أوراقه.


ومن زاوية أخرى، فإن الصراع بين القوى اليمنية نفسها أنتج ظاهرة خطيرة: “تبدد العدو”. عندما يصبح اليمني منشغلاً بخصمه اليمني الآخر في مدينة محررة، يتراجع الحوثي في الوعي كخطر مركزي، ويتحول إلى خطر “مؤجل” أو “متعايش معه”. وهذه هي أخطر هدايا الانقسام: أن ينجح الحوثي في تحويل نفسه من انقلاب يجب إسقاطه إلى واقع يجب التكيف معه. هنا تتبدل اللغة، وتلين المواقف، ويبدأ التعب النفسي والاجتماعي، وتصبح الأولوية لدى الناس “العيش” لا “الحسم”. والحوثي، كجماعة أيديولوجية مسلحة، يعرف أن التعب الشعبي أكبر حليف له؛ لأن الناس حين تتعب تبحث عن أي استقرار، حتى لو كان قاسيًا.


وفي المحصلة، يمكن القول إن الحوثيين لم ينتصروا لأنهم أقوى من اليمن، بل لأن اليمن – سياسيًا – لم يقدّم نفسه كجبهة واحدة. استفاد الحوثيون من صراع الأطراف منذ 2015 حتى اليوم عبر ثلاث بوابات: بوابة التشظي السياسي الذي عطل قرار الحرب والسلم، وبوابة التباين داخل التحالف الذي خلق أولويات متعددة، وبوابة اقتصاد الحرب الذي أغرى كثيرين باستمرار الصراع. ومع كل يوم يتأخر فيه بناء مؤسسة دولة حقيقية في المناطق المحررة – مؤسسة تخدم الناس وتدفع الرواتب وتفرض القانون وتوحد السلاح – يكسب الحوثي يومًا إضافيًا في صنعاء، ويكسب قدرة أكبر على فرض شروطه.


إذا أراد اليمنيون إغلاق هذه الحلقة، فإن البداية ليست في زيادة عدد الجبهات أو رفع الشعارات، بل في إعادة تعريف المعركة كمعركة دولة ضد انقلاب، وبناء مركز قرار وطني حقيقي، وتوحيد الموارد تحت مؤسسة مالية واحدة، وتجفيف اقتصاد الحرب في المناطق المحررة، ووضع الخدمات كجبهة مساوية للجبهة العسكرية. فالحرب التي تتشظى إلى معارك متعددة لا تُحسم، والخصم الذي يواجه خصومًا متنازعين لا يُهزم بسهولة. هذه هي معادلة السنوات الطويلة: الحوثي ربح من انقسام الآخرين أكثر مما ربح من قوته الذاتية، والخسارة الكبرى كانت أن معركة اليمن الواحدة تكسرت إلى معارك كثيرة، فتأخر الحسم وطالت المعاناة.


غرفة الأخبار / عدن الغد