منذ رحيل الزعيم علي صالح، يبدو أن الخطابات السياسية فقدت بريقها، ولا أظن انني استمعت الى خطاب سياسي كامل بعد رحيلة !
صالح، الذي كان يطلّ بخطاباته الحماسية ويصنع من اللاشيء حدثاً كبيراً، قد رحل تاركاً فراغاً لا يمكن ملؤه بسهولة. قد تنهال علي الشتائم، وربما يتهمني البعض بالتآمر والتخابر مع كوريا الشمالية لمجرد أنني أذكره بخير، دعونا نكون واقعيين: الرجل كان لديه مهارة خاصة في تحويل المشاريع الوهمية إلى قصص تؤمن بها الجماهير، كان " صالح " يفهم الناس أكثر مما يفهمونه. وكان يدرك أن الشعب يريد أن يرى حركةً حتى لو لم تكن هناك وجهة حقيقية. لذلك، كان يزور المرافق الحكومية، يضع حجر الأساس لمشاريع ربما لا تولد أبداً، ويقص شريط الافتتاح لمشاريع أخرى بالكاد تعمل.
الجميع كان يعلم أنها في كثير من الأحيان مجرد استعراض، لكن الاستعراض نفسه جزءاً من اللعبة. ويخلق شعوراً بالأمل، أو على الأقل يوهم الناس بأن هناك شيئاً يحدث، وأنه “الرئيس الحاضر” في تفاصيل حياتهم اليومية!
ميكافيلي، في كتابه “الأمير”، قال إن الغاية تبرر الوسيلة، وإن الحاكم يجب أن يكون ماكراً، بل ومستعداً لاستخدام الخداع لتحقيق أهدافه وطموحاتة . وصالح كان يجسد هذه الفلسفة، ليس لأنه كان خادعاً بامتياز، بل لأنه كان يعرف كيف يُقنعك بأن الوهم حقيقة، وأن تلك " البلكة " وخلطة الإسمنت التي وضعها في الصحراء ستتحول قريباً إلى مشروع عظيم.
الأمر ليس سلبياً بالكامل. هناك شعور غريب بالراحة عندما ترى زعيماً يبدو وكأنه “يفعل شيئاً”، حتى لو لم يكن ذلك الشيء حقيقياً. إنه فن إدارة التوقعات، وهو فنّ نفتقده اليوم في ظل غياب “الوهم المنظم”، تبدو السياسة في اليمن بلا روح. لا خطابات ملهمة، ولا مشاريع حقيقية أو وهمية، ولا حتى شريط أحمر يقص أمام الكاميرات. الشعب يواجه واقعه الصعب بلا وسيط، بلا أمل يصنعه زعيم يعرف كيف يبيع الوهم بحرفية.
المفارقة أن الزعماء الحاليين لا يقدمون لنا لا الحقيقة ولا الوهم. يكتفون بالصمت أو بالخطب المكررة والمملة التي لا تحمل أي رؤية.
قد يبدو غريباً، لكن أحياناً، الشعوب تحتاج إلى الوهم أكثر مما تحتاج إلى الحقيقة. الوهم يعطيك أملاً ولو زائفاً، يحفزك للعمل ولو كان بلا طائل. في النهاية، كل الحضارات العظيمة بدأت بأحلام تبدو وهمية.
الحقيقة وحدها قد تكون ثقيلة جداً على الشعوب التي تواجه أزمات مستمرة. ربما لهذا السبب، نجد أنفسنا أحياناً نشتاق لزمن الزعماء الذين يعرفون كيف يصنعون من لا شيء شيئاً
صناعة الوهم ليست عيباً بحد ذاتها إذا كانت مدروسة وتصب في مصلحة عامة، أو حتى تخلق شعوراً بالأمل في الأوقات العصيبة.
فقدنا ذلك الزعيم الذي يعرف كيف يجعل من “حجر الأساس” قصة تُروى، وكيف يجعل من الشعب شريكاً في حلم،
ربما نحتاج اليوم إلى زعيم. يعيد إلينا شريط الافتتاح وحجر الأساس، حتى لو كان لمشروع مزرعة أسماك في وسط الصحراء!